قال الكلبيّ (١) ـ رحمهالله ـ اجتنبني طويلا.
والمراد بقوله : واهجرني ، أي : بالمفارقة من الدّار والبلد ، وهي كهجرة النبي صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين ، أي : تباعد عنّي ؛ لكي لا أراك.
وقيل : اهجرني [بالقول ، وعطف «واهجرني» على معطوف عليه محذوف يدل عليه : «لأرجمنك» أي : فاحذرني ، واهجرني](٢) ؛ لئلّا أرجمك ، فلما سمع إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كلام أبيه ، أجاب بأمرين :
أحدهما : أنه وعده بالتّباعد منه ؛ موافقة وانقيادا لأمر أبيه.
والثاني : قوله : (سَلامٌ عَلَيْكَ) توديع ، ومتاركة ، أي : سلمت منّي ، لا أصيبك بمكروه ؛ وذلك لأنّه لم يؤمر بقتاله على كفره ؛ كقوله تعالى : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص : ٥٥] ، (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣].
وهذا يدلّ على جواز متاركة المنصوح ، إذا ظهر منه اللّجاج ، وعلى أنّه تحسن مقابلة الإساءة بالإحسان ، ويجوز أن يكون دعا له بالسّلامة ؛ استمالة له.
ألا ترى أنّه وعده بالاستغفار ؛ فيكون سلام برّ ولطف ؛ وهو جواب الحليم للسّفيه؟!.
كقوله سبحانه : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣].
وقرأ أبو البرهسم (٣) «سلاما» بالنصب ، [وتوجيهها](٤) واضح ممّا تقدّم.
قوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) ، أي : لمّا أعياه أمره ، وعده أن يراجع الله فيه ، فيسأله أن يرزقه التّوحيد ، ويغفر له ، والمعنى : سأسأل الله لك توبة تنال بها المغفرة : (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) برّا لطيفا.
واحتجّ بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ وذلك أنّ إبراهيم ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ استغفر لأبيه ، وأبوه كان كافرا ، والاستغفار للكفّار غير جائز ؛ فثبت أنّ إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ فعل ما لا يجوز.
أما استغفاره لأبيه ؛ فلقوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) وقوله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٨٦].
وأما كون أبيه كان كافرا ؛ فبالإجماع ، ونصّ القرآن.
وأمّا أن الاستغفار [للكافر] لا يجوز ؛ فلقوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
__________________
(١) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٩٧.
(٢) سقط من أ.
(٣) ينظر : البحر ٦ / ١٨٤ ، والدر المصون ٤ / ٥١٠.
(٤) في ب : وهو.