مشعر بالعليّة ، فهاهنا وقع الأمر بالعبادة مرتّبا على ذكر وصف الربوبيّة ، فدلّ على أنّه إنّما يلزمنا عبادته سبحانه ؛ لكونه ربّا لنا ؛ وذلك يدلّ على أنه تعالى إنّما تجب عبادته لكونه منعما على الخلائق بأنواع النّعم ؛ ولذلك فإنّ إبراهيم ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ لمّا منع أباه من عبادة الأوثان ، قال : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢] أي : إنّها لما لم تكن منعمة على العباد ، لم تجز عبادتها ، وبيّن هاهنا أنّه لما ثبت أن الله تعالى لمّا كان ربّا ومربّيا ، وجبت عبادته ، فقد ثبت طردا وعكسا تعلّق العبادة بكون المعبود منعما ، ثم قال : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [يعنى القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة صراط مستقيم ، وسمي هذا القول صراطا مستقيما](١) تشبيها بالطّريق ؛ لأنّه المؤدّي إلى الجنة.
قوله تعالى : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ)(٤٠)
قوله تعالى : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ.)
قيل : المراد النّصارى ، سمّوا أحزابا ؛ لأنهم تحزّبوا ثلاث فرق في أمر عيسى : النّسطوريّة ، والملكانيّة [واليعقوبيّة](٢) وقيل : المراد بالأحزاب الكفّار بحيث يدخل فيهم اليهود ، والنصارى ، والكفّار الذين كانوا في زمان محمّد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وهذا هو الظاهر ؛ لأنّه تخصيص فيه ، ويؤيّده قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا).
قوله : (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : «مشهد» مفعل : إمّا من الشّهادة ، وإمّا من الشّهود ، وهو الحضور ، و«مشهد» هنا : يجوز أن يراد به الزمان ، أو المكان ، أو المصدر : فإذا كان من الشهادة ، والمراد به الزمان ، فتقديره : من وقت شهادة ، وإن أريد به المكان ، فتقديره : من مكان شهادة يوم ، وإن أريد به المصدر ، فتقديره : من شهادة ذلك اليوم ، وأن تشهد عليهم ألسنتهم ، وأيديهم ، وأرجلهم ، والملائكة ، والأنبياء ، وإذا كان من الشهود ؛ وهو الحضور ، فتقديره : من شهود الحساب والجزاء يوم القيامة ، أو من مكان الشّهود فيه ، وهو الموقف ، أو من وقت الشّهود ، وإذا كان مصدرا بحالتيه المتقدمتين ، فتكون إضافته إلى الظرف من باب الاتّساع ؛ كقوله (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤]. ويجوز أن يكون المصدر مضافا لفاعله على أن يجعل اليوم شاهدا عليهم : إمّا حقيقة ، وإمّا مجازا.
ووصف ذلك المشهد بأنّه عظيم ؛ لأنّه لا شيء أعظم ممّا يشاهد ذلك اليوم من أهواله.
__________________
(١) سقط من : أ.
(٢) في ب : والمار يعقوبية.