الله تعالى ، لمّا شرع لمحمّد صلىاللهعليهوسلم طريقته في الإخلاص والابتهال في جميع الأمور إلى الله تعالى ، صار ذلك لطفا داعيا له ، ولأمّته إلى تلك الطريقة ، فكان زكريّا رحمة.
ويحتمل أن يكون المراد أنّ هذه السّورة فيها ذكر الرحمة التي يرحم بها عبده زكريّا.
قوله : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا).
في ناصب إذ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنّه «ذكر» ، ولم يذكر الحوفيّ غيره.
والثاني : أنّه «رحمة» وقد ذكر الوجهين أبو البقاء.
والثالث : أنّه بدل من «زكريّا» بدل اشتمال ؛ لأنّ الوقت مشتمل عليه ، وسيأتي مثل هذا عند قوله (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ) [مريم : ١٦] ونحوه.
فصل في أدب زكريا في دعائه
راعى سنّة الله في إخفاء دعوته ؛ لأنّ الجهر والإخفاء عند الله سيّان ، وكان الإخفاء أولى ؛ لأنّه أبعد عن الرّياء ، وأدخل في الإخلاص.
وقيل : أخفاه ؛ لئلّا يلام على طلب الولد في زمان الشيخوخة وقيل : أسرّه من مواليه الذين خافهم.
وقيل : خفت صوته ؛ لضعفه ، وهرمه ، كما جاء في صفة الشّيخ : صوته خفات ، وسمعه تارات.
فإن قيل : من شرط النّداء الجهر ، فكيف الجمع بين كونه نداء وخفيّا؟.
فالجواب من وجهين :
الأول : أنّه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصّوت ؛ إلا أنّ صوته كان ضعيفا ؛ لنهاية ضعفه بسبب الكبر ، فكان نداء ؛ نظرا إلى القصد ، خفيّا نظرا إلى الواقع.
الثاني : أنّه دعاه في الصّلاة ؛ لأنّ الله تعالى ، أجابه في الصّلاة ؛ لقوله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ) [آل عمران : ٣٩] فتكون الإجابة في الصّلاة تدلّ على كون الدّعاء في الصّلاة ؛ فوجب أن يكون النداء فيها خفيّا.
وفي التفسير : «إذ نادى» : دعا «ربّه» في محرابه.
قوله : (نِداءً خَفِيًّا) دعا سرّا من قومه في جوف الليل.
قوله : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) الآية.
قوله : (قالَ رَبِّ) : لا محلّ لهذه الجملة ؛ لأنها تفسير لقوله «نادى ربّه» وبيان ، ولذلك ترك العاطف بينهما ؛ لشدّة الوصل.