فصل في فوائد هذه القصة
في فوائد هذه القصّة [أمور](١) منها :
تعليم آداب الدعاء ، وهو قوله : (نِداءً خَفِيًّا) يدلّ على أن أفضل الدعاء خفية ويؤكّده قوله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف : ٥٥] ؛ ولأنّ رفع الصوت مشعر بالقوّة والجلادة ، وإخفاء الصوت مشعر بالضعف والانكسار ، وعمدة الدّعاء الانكسار والتبرّي عن حول النّفس وقوّتها ، والاعتماد على فضل الله تعالى وإحسانه.
ويستحبّ أن يذكر في مقدّمة الدعاء عجز النّفس وضعفها ؛ كقوله : (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) ثم يذكر نعم الله تعالى ؛ كقوله : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) ، ويكون الدعاء لما يتعلق بالدين لا لمحض الدنيا ، كقوله : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) وأن يكون الدّعاء بلفظ : يا ربّ.
كما ذكر فيها بيان فضل زكريّا ، ويحيى ـ عليهماالسلام ـ أما زكريّا ؛ فلتضرّعه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكليّة ، وإجابة الله تعالى دعاءه ، وأن الله تعالى بشّره ، وبشّرته الملائكة ، واعتقال لسانه عن الكلام دون التّسبيح.
وأمّا يحيى ؛ فلأنّه لم يجعل له من قبل سميّا ، وقوله (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)، وكونه رحيما حنانا وطاهرا ، وتقيّا ، وبرّا بوالديه ، ولم يكن جبّارا ، ولم يعص قطّ ، ولا همّ بمعصية ، ثم سلّم عليه يوم ولد ، ويوم يموت ، ويوم يبعث حيّا.
ومنها : كونه تعالى قادرا على خلق الولد ، وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة ردّا على أهل الطّبائع.
ومنها : أن المعدوم ليس بشيء ؛ لقوله : (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً).
فإن قيل : المرا د «ولم تك شيئا مذكورا» كما في قوله : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) [الإنسان : ١].
فالجواب (٢) : أنّ الإضمار خلاف الأصل ، وللخصم أن يقول : الآية تدلّ على أن الإنسان لم يكن شيئا مذكورا ، ونحن نقول به ؛ لأنّ الإنسان عبارة عن جواهر متألّفة قامت بها أعراض مخصوصة ، والجواهر المتألّفة الموصوفة بالأغراض المخصوصة ليست ثابتة في العدم (٣) ، وإنّما الثابت هو [أعيان](٤) تلك الجواهر مفردة غير مركّبة ، وهي ليست بالإنسان ، فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب. ومنها أن الله تعالى ذكر هذه القصة في «آل عمران» ، وذكرها في هذه السورة ، فلنعتبر حالها في الموضعين ، فنقول : إن الله تعالى بيّن في هذه السورة أنه دعا ربه ، ولم يبين الوقت ، وبينه في «آل عمران» بقوله
__________________
(١) سقط من : ب.
(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٦٦.
(٣) في ب : المعدوم.
(٤) في ب : الاعتبار.