أنثى ، فعنده زالت التّهمة عن قلبه ، وكان ينوب عنها في خدمة المسجد ؛ لاستيلاء الضّعف عليها ؛ بسبب الحمل ، وضيق القلب ، فلمّا قرب نفاسها ، أوحى الله تعالى إليها أن اخرجي من أرض قومك ؛ لئلّا يقتلوا ولدك ، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له ، فلمّا بلغت تلك البلاد ، وأدركها النّفاس ، فألجأها إلى أصل نخلة ، وذلك في زمان برد ، فاحتضنتها ، [فوضعت](١) عندها.
وقيل : إنّها استحيت من زكريّا ، فذهبت إلى مكان بعيد ، لئلّا يعلم بها زكريّا ـ صلوات الله عليه ـ.
وقيل : لأنّها كانت مشهورة في بني إسرائيل بالزّهد ؛ لنذر أمّها ، وتشاحّ الأنبياء في تربيتها ، وتكفّل زكريّا بها ، وكان الرّزق يأتيها من عند الله تعالى ، فلمّا كانت في نهاية الشّهرة استحيت من هذه الواقعة ، فذهبت إلى مكان بعيد.
وقيل : خافت على ولدها من القتل ، لو ولدته بين أظهرهم. وكلّ هذه الوجوه محتملة ، وليس في القرآن ما يدلّ على شيء منها.
فصل في بيان مدة حمل مريم
اختلفوا في مدّة حملها ، فروي عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ أنّها تسعة أشهر ؛ كسائر النّساء(٢) في الغالب.
وقيل : ثمانية أشهر ، وكان ذلك آية أخرى ؛ لأنّه لم يعش ولد يولد لثمانية أشهر إلّا عيسى ـ صلوات الله عليه ـ.
وقال عطاء ، وأبو العالية ، والضحاك : سبعة أشهر (٣) وقيل : ستّة أشهر.
وقال مقاتل بن سليمان : ثلاث ساعات ، حملت به في ساعة ، وصوّر في ساعة ، ووضعته حين زالت الشّمس من يومها (٤).
وقال ابن عبّاس : كان الحمل والولادة في ساعة واحدة (٥) ، ويدلّ عليه وجهان :
الأول : قوله : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ فَناداها مِنْ تَحْتِها) ، والفاء : للتعقيب ؛ فدلّت هذه الفاءات على أنّ كلّ واحد من هذه الأحوال حصل عقيب الآخر من غير فصل ؛ وذلك يوجب كون مدّة الحمل ساعة واحدة لا يقال : انتباذها مكانا قصيّا كيف يحصل في ساعة واحدة ؛ لأنّا نقول : السّدي فسّر بأنّها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها.
الثاني : أنّ الله تعالى قال في وصفه (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ
__________________
(١) في ب : فولدت.
(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٩٢).
(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ١٧٢).
(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٩٢).
(٥) ينظر : المصدر السابق.