فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل : ١٥ ، ١٦] ، أي : ذلك السلام الموجّه إلى يحيى موجّه إليّ ، وقال الزمخشريّ ـ رحمهالله ـ : «والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضا باللعنة على متّهمي مريم ـ عليهاالسلام ـ وأعدائها من اليهود ، وتحقيقه : أنّ اللّام لاستغراق الجنس ، فإذا قال : وجنس السّلام عليّ خاصّة ، فقد عرّض بأنّ ضدّه عليكم ، ونظيره قول موسى ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ : (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) [طه : ٤٧].
يعني : أنّ العذاب على من كذّب ، وتولّى ، وكان المقام مقام اللّجاج والعناد ، فيليق به هذا التعريض».
فصل في الفرق بين السلام على يحيى ، والسلام على عيسى
روي أن عيسى ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ قال ليحيى : أنت خير منّي ؛ سلّم الله عليك ، وسلّمت على نفسي. وأجاب الحسن ، فقال : إن تسليمه على نفسه تسليم الله ؛ لأنّه إنّما فعله بإذن الله.
قال القاضي (١) : السّلام عبارة عمّا يحصل به الأمان ، ومنه السّلامة في النّعم ، وزوال الآفات ، فكأنّه سأل ربّه ما أخبر الله تعالى أنه فعل بيحيى ، وأعظم احتياج الإنسان إلى السّلامة في هذه الأحوال الثلاثة ، وهي يوم الولادة ، أي : السّلامة عند الولادة من طعن الشّيطان ، ويوم الموت ، أي : عند الموت من الشّرك ، ويوم البعث من الأهوال.
قال المفسّرون : لمّا كلّمهم عيسى بهذا ، علموا براءة مريم ، ثم سكت عيسى ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ ، فلم يتكلّم بعد ذلك حتّى بلغ المدّة التي يتكلّم فيها الصّبيان.
قوله : (يَوْمَ وُلِدْتُ) منصوب بما تضمّنه «عليّ» من الاستقرار ، ولا يجوز نصبه ب «السّلام» للفصل بين المصدر ومعموله ، وقرأ زيد بن (٢) عليّ «ولدت» جعله فعلا ماضيا مسندا لضمير مريم ، والتاء للتأنيث ، و«حيّا» حال مؤكّدة.
فصل في الرد على اليهود والنصارى
اعلم أنّ اليهود والنّصارى ينكرون أنّ عيسى ـ صلوات الله عليه ـ تكلّم في زمان الطفوليّة ؛ واحتجّوا بأنّ هذا من الوقائع العجيبة ، التي تتوافر الدّواعي على نقلها ، فلو وجدت ، لنقلت بالتّواتر ، ولو كان كذلك ، لعرفه النّصارى ، لا سيّما وهم أشدّ النّاس بحثا عن أحواله ، وأشدّ النّاس غلوّا فيه ؛ حتّى ادعوا كونه إلها ، ولا شكّ أنّ الكلام في الطفوليّة من المناقب العظيمة ، فلمّا لم يعرفه النصارى مع شدّة الحبّ ، وكمال البحث عنه ، علمنا أنّه لم يوجد ؛ ولأنّ اليهود أظهروا عداوته حين ادّعى النّبوّة والرسالة ، فلو أنّه ـ صلوات الله عليه ـ تكلّم في المهد ، لكانت عداوتهم معه أشدّ ، ولكان قصدهم قتله أعظم ، فحيث لم يحصل شيء من ذلك ، علمنا أنّه ما تكلّم.
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٨٥.
(٢) ينظر : البحر المحيط ٦ / ١٧٨ ، الدر المصون ٤ / ٥٠٥.