ففتقها فجعلها سبع أرضين. وقال ابن عباس في رواية عطاء وأكثر المفسرين : إن السموات كانت رتقا مستوية صلبة لا تمطر ، والأرض رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات ، ونظيره قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ)(١). ورجحوا هذا الوجه بقوله بعد ذلك : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) ، وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ، وهو ما ذكرنا فإن قيل : هذا الوجه مرجوح ، لأن المطر لا ينزل من السموات بل من سماء واحدة ، وهي سماء الدنيا.
فالجواب : إنما أطلق عليه لفظ الجمع ، لأن كل قطعة منها سماء ، كما يقال : ثوب أخلاق (٢) ، وبرمة أعشار (٣). وعلى هذا التأويل فتحمل الرؤية على الإبصار. وقال أبو مسلم : يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٤) ، وكقوله : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ)(٥) فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق ، وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق.
وتحقيقه أن العدم نفي محض ، فليس فيه ذوات وأعيان متباينة بل كأنه أمر واحد متصل متشابه ، فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكوين يتميز بعضها من بعض ، وينفصل بعضها عن بعض.
فبهذا الطريق يحسن جعل الرتق مجازا عن العدم ، والفتق عن الوجود.
وقيل : إن الليل سابق النهار لقوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ)(٦) فكانت (٧) السموات والأرض مظلمة أولا ففتقها الله بإظهار النهار المبصر (٨). واعلم أن دلالة هذه
__________________
(١) [الطارق : ١١ ، ١٢].
(٢) أخلاق جمع خلق أي : بال ، يصفون به الواحد ، إذا كانت الخلوقة فيه كله ، كما قالوا : برمة أعشار.
اللسان (خلق).
(٣) البرمة : قدر من حجارة ، والجمع برم ، وبرام ، وبرم. (اللسان «برم») وأعشار جمع العشر أي مكسرة على عشر قطع ، (اللسان «عشر»).
(٤) قوله : «فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ورد في القرآن ست مرات أولها [الأنعام : ١٤] وآخرها [الشورى : ١١] انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن (٥٢٣).
(٥) [الأنبياء : ٥٦].
(٦) [سورة يس : ٣٧].
(٧) في الأصل : كانت.
(٨) وابن الخطيب عند ترجيحه لهذه الأقوال ذكر : أن الظاهر يقتضي أن السماء على ما هي عليه ، والأرض على ما هي عليه كانتا رتقا ، ولا يجوز كونهما كذلك إلا وهما موجودان ، والرتق ضد الفتق ، فإذا كان الفتق هو المفارقة فالرتق يجب أن يكون هو الملازمة وبهذا الطريق صار قول أبي مسلم وما بعده مرجوحا ويصير قول ابن عباس في رواية عكرمة والحسن وقتادة وسعيد بن جبير أولى الوجوه. ويتلوه قول مجاهد والسدي ، وهو أن كل واحد منهما كان رتقا ففتقهما بأن جعل كل واحد منهما سبعا ، ويتلوه قول ابن عباس في رواية عطاء وأكثر المفسرين وهو أنهما كان صلبين من غير فطور وفرج ، ففتقهما لينزل المطر من السماء ، ويظهر النبات على الأرض. انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٣.