الوجوه على إثبات الصانع ووحدانيته ظاهرة لأن أحدا لا يقدر على مثل ذلك (١). قوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) يجوز في «جعل» هذه أن يكون بمعنى (خلق) فيتعدى لواحد ، وهو (كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)(٢) و«من الماء» متعلق بالفعل قبله ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من (كُلَّ شَيْءٍ) لأنه في الأصل يجوز أن يكون وصفا له فلما قدم عليه نصب على الحال (٣). ومعنى خلقه من الماء : أحد شيئين : إما شدة احتياج كل حيوان للماء فلا يعيش بدونه ، وإما لأنه مخلوق من النطفة التي تسمى ماء. ويجوز أن يكون (جعل) بمعنى (صيّر) فيتعدى لاثنين ثانيهما الجار (٤) بمعنى أنا صيرنا كل شيء حي بسبب (٥) من الماء لا بد له منه. والعامة على خفض «حيّ» صفة لشيء (٦). وقرأ حميد بنصبه (٧) على أنه مفعول ثان ل «جعلنا» والظرف لغو (٨) ، ويبعد على هذه القراءة أن يكون «جعل» بمعنى (خلق) ، وأن ينتصب (٩) «حيا» على الحال.
قال الزمخشري : و«من» في هذا نحو «من» في قوله عليهالسلام (١٠) «ما أنا من دد ولا الدّد منّي»(١١)(١٢).
فإن قيل : كيف قال : خلقنا من الماء كل حيوان ، وقد قال : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ)(١٣) ، وقال عليهالسلام (١٤) : «إن الله تعالى خلق الملائكة من النور» (١٥) ، وقال في عيسى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ) فيه (فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي)(١٦) ، وقال في حق آدم : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ)(١٧) فالجواب : اللفظ وإن كان عاما
__________________
(١) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٦٢ ـ ١٦٣.
(٢) انظر التبيان ٢ / ٩١٦.
(٣) المرجع السابق ٢ / ٩١٧.
(٤) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٨٣ ، التبيان ٢ / ٩١٧.
(٥) في ب : لسبب.
(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٩ ، والإتحاف ٣١٠.
(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠٩.
(٨) أي أن (جعل) على هذه القراءة يكون بمعنى (صير) ، وجوز أبو البقاء أن يكون «حيا» بالنصب صفة ل «كل». وانظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٨٤ ، الكشاف ٣ / ٩ ـ ١٠ ، التبيان ٢ / ٩١٧ ، البحر المحيط ٦ / ٣٠٩ ، والإتحاف ٣١٠.
(٩) في ب : تنصب.
(١٠) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(١١) انظر النهاية في غريب الحديث ٢ / ١٠٩ ، الفائق ١ / ٤٢٠ ، الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١١٠) ، والدد : اللهو واللعب.
(١٢) الكشاف : ٣ / ٩.
(١٣) [الحجر : ٢٧].
(١٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(١٥) في صحيح مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم» (زهد) ٤ / ٩٤ ، ٢٢ وأحمد ٦ / ١٥٨ ، ١٦٨.
(١٦) [المائدة : ١١٠] وفي النسختين : إذ تخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيه فتكون طيرا بإذن الله. وهو تحريف.
(١٧) من قوله تعالى : «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» [آل عمران : ٥٩].