قال الزمخشري : فإن قلت : الاستحسار مبالغة في الحسور ، فكان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور. قلت : في الاستحسار بيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور وأقصاه ، وأنهم أحقاء لتلك العبادات الشاقة (١) بأن (٢) يستحسروا فيما يفعلون (٣). وهو سؤال حسن وجواب مطابق. قوله : «يسبّحون» يجوز أن يكون مستأنفا ، وأن يكون حالا من الفاعل في الجملة قبله (٤). و (لا يَفْتُرُونَ) يجوز فيه الاستئناف ، والحال من فاعل «يسبّحون» (٥).
فصل
دلّت هذه الآية على أن الملك أفضل من البشر من ثلاثة أوجه تقدمت في البقرة (٦). والمراد بقوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ) هم الملائكة بالإجماع وصفهم الله تعالى بأنهم (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) وهذا لا يليق بالبشر ، وهذه العندية عندية الشرف لا عندية المكان والجهة (٧). روى عبد الله بن الحارث بن نوفل (٨) قال : قلت لكعب : أرأيت قول الله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) ثم قال : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً)(٩) أفلا تكون الرسالة مانعة لهم عن ذلك التسبيح ، وأيضا قال : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ)(١٠) فكيف يشتغلون باللعن حال اشتغالهم بالتسبيح؟ أجاب كعب الأحبار وقال : التسبيح لهم كالتنفس لنا ، فكما أن اشتغالنا بالتنفس لا يمنعنا الكلام فكذلك اشتغالهم بالتسبيح لا يمنعهم من سائر الأعمال (١١).
فإن قيل : هذا القياس غير صحيح ، لأن الاشتغال بالتنفس إنما لم يمنع من الكلام ؛ لأن آلة التنفس غير آلة الكلام ، وأما التسبيح واللعن فهما من جنس الكلام فاجتماعهما محال. فالجواب : أي استبعاد في أن يخلق الله لهم ألسنة كثيرة ببعضها (١٢) يسبح الله
__________________
(١) في ب : الباهظة.
(٢) في النسختين : بأن لا. والتصويب من الفخر الرازي.
(٣) الكشاف ٣ / ٦.
(٤) انظر التبيان ٢ / ٩١٤.
(٥) المرجع السابق.
(٦) عند قوله تعالى : «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ» [البقرة : ٣٤] انظر اللباب ١ / ١٢٠. وانظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٨.
(٧) المرجع السابق.
(٨) هو عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي أبو محمد المدني.
روى عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مرسلا وعن عمر وعثمان وعلي وعن أبيه ، وغيرهم ، وروى عنه أبناؤه عبد الله وإسحاق وعبد الملك بن عمير ، وغيرهم ، مات سنة (٩٩ ه). تهذيب التهذيب ٥ / ١٨٠ ـ ١٨١.
(٩) من قوله تعالى : «الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» [فاطر : ١].
(١٠) من قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» [البقرة : ١٦١].
(١١) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ١٤٩.
(١٢) في ب : بعضها.