أحدها : أن العبادة غاية التّعظيم ؛ فلا يستحقّها إلّا من له غاية الإنعام ، وهو الإله الذي منه أصول النّعم ، وفروعها على ما [تقدّم](١) في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) [آل عمران : ٥١] ، وقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] ، وكما أنّه لا يجوز الاشتغال بشكرها ، لمّا لم يكن منعمة ، وجب ألّا يجوز الاشتغال بعبادتها.
وثانيها : أنّها إذا لم تسمع ، ولم تبصر ، ولم تميّز من يطيعها عمّن يعصيها ، فأيّ فائدة في عبادتها ، وهذا تنبيه على أنّ الإله يجب أن يكون عالما بكلّ المعلومات.
وثالثها : أنّ الدّعاء مخّ العبادة ، فإذا لم يسمع الوثن دعاء الدّاعي ، فأيّ منفعة في عبادته؟ وإذا لم يبصر تقرّب من يتقرّب إليه ، فأيّ منفعة في ذلك التّقرّب؟.
ورابعها : أنّ السّامع المبصر الضّار النّافع أفضل ممن كان عاريا عن كلّ ذلك ، والإنسان موصوف بهذه الصّفات ؛ فيكون أفضل ، وأكمل من الوثن ، فكيف يليق بالأفضل عبوديّة الأخسّ؟.
وخامسها : إذا كانت لا تنفع ، ولا تضرّ ، فلا يرجى منها منفعة ، ولا يخاف من ضررها ، فأيّ فائدة في عبادتها؟!.
وسادسها : إذا كانت لا تحفظ نفسها عن الكسر والإفساد ، حين جعلها إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ جذاذا ، فأيّ رجاء فيها للغير؟! ، فكأنّه ـ صلوات الله عليه ـ قال : ليست الإلهيّة إلّا لربّ يسمع ويبصر ، ويجيب دعوة الدّاعي ، إذا دعاه.
فإن قيل : إمّا أن يقال : إنّ أبا إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ كان يعتقد في تلك الأوثان أنّها آلهة قادرة ، مختارة ، خالقة.
أو يقال : إنّه ما كان يعتقد ذلك ؛ بل كان يعتقد أنّها تماثيل للكواكب ، والكواكب هي الآلهة المدبّرة للعالم ؛ فتعظيم تماثيل الكواكب يوجب تعظيم الكواكب.
أو كان يعتقد أنّ هذه الأوثان تماثيل أشخاص معظّمة عند الله من البشر ، فتعظيمها يقتضي كون أولئك الأشخاص شفعاء لهم عند الله.
أو كان يعتقد أن تلك الأوثان طلّسمات ركّبت بحسب اتّصالات مخصوصة للكواكب ، قلّما يتّفق مثلها ، أو لغير ذلك.
فإن كان أبو إبراهيم من القسم الأوّل ، كان في نهاية الجنون ؛ لأنّ العلم بأنّ هذا الخشب المنحوت في هذه السّاعة ليس خالقا للسّموات والأرض من أجلى العلوم الضروريّة ، فالشّاكّ فيه يكونه مجنونا ، والمجنون لا يناظر ، ولا يورد عليه الحجّة ، وإن كان من القسم الثاني ، فهذه الدلائل لا تقدح في شيء من ذلك ؛ لأنّ ذلك المذهب إنما
__________________
(١) في ب : تقرر.