على النّاس ؛ لقوله تعالى : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] والشّهيد : إنّما يقبل قوله ، إذا لم يكن كاذبا ؛ فإن قيل : فما قولكم في قول إبراهيم (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) [الأنبياء : ٦٣] و (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩].
فالجواب مشروح في هذه الآيات ، وبينّا أن شيئا من ذلك ليس بكذب ، ولمّا ثبت أنّ كلّ نبيّ يجب أن يكون صديقا ، ولا يجب في كلّ صدّيق أن يكون نبيّا ؛ ظهر بهذا قرب مرتبة الصّدّيق من مرتبة النبيّ ، فلهذا انتقل من ذكر كونه صديقا إلى ذكر كونه نبيّا.
وأما النبيّ : فمعناه : كونه رفيع القدر عند الله ، وعند النّاس ، وأيّ رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطة بينه ، وبين عباده ، وقوله : (كانَ صِدِّيقاً) معناه : صار ، وقيل : وجد صدّيقا نبيّا ، أي : كان من أوّل وجوده إلى انتهائه موصوفا بالصدق والصّيانة.
قوله تعالى : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) : يجوز أن يكون بدلا من «إبراهيم» بدل اشتمال ؛ كما تقدّم في (إِذِ انْتَبَذَتْ) [الآية : ١٦] وعلى هذا ، فقد فصل بين البدل ، والمبدل منه ؛ بقوله : (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) نحو : «رأيت زيدا ـ ونعم الرّجل أخاك» وقال الزمخشريّ : ويجوز أن تتعلق «إذ» ب «كان» أو ب (صِدِّيقاً نَبِيًّا) ، أي : كان جامعا لخصائص الصديقين ، والأنبياء ، حين خاطب أباه بتلك المخاطبات ولذلك جوّز أبو البقاء (١) أن يعمل فيه (صِدِّيقاً نَبِيًّا) أو معناه.
قال أبو حيان : «الإعراب الأوّل ـ يعني البدلية ـ يقتضي تصرّف «إذ» وهي لا تتصرّف ، والثاني فيه إعمال «كان» في الظرف ، وفيه خلاف ، والثالث لا يكون العامل مركّبا من مجموع لفظين ، بل يكون العمل منسوبا للفظ واحد ، ولا جائز أن يكون معمولا ل «صدّيقا» لأنّه قد وصف ، إلا عند الكوفيّين ، ويبعد أن يكون معمولا ل «نبيّا» لأنه يقتضي أنّ التّنبئة كانت في وقت هذه المقالة».
قال شهاب الدين : العامل فيه ما لخّصه أبو القاسم ، ونضّده بحسن صناعته من مجموع اللفظين في قوله : «أي : كان جامعا لخصائص الصّدّيقين والأنبياء حين خاطب أباه».
وقد تقدّمت قراءة ابن عامر «يا أبت» وفي مصحف عبد الله (٢) «وا أبت» ب «وا» التي للندبة.
والتاء عوض من ياء الإضافة ، ولا يقال : يا أبتي ، لئلّا يجمع بين العوض ، والمعوّض منه ، وقد يقال: يا أبتا لكون الألف بدلا من الياء.
قوله تعالى : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) وصف الأوثان بصفات ثلاث ، كلّ واحدة منها فادحة في الإلهيّة وبيان ذلك من وجوه :
__________________
(١) ينظر : الإملاء ٢ / ١١٤.
(٢) ينظر : البحر ٦ / ١٨٢ ، الدر المصون ٤ / ٥٩٠.