التأويل الثالث : أنّ الحرام قد يراد به الواجب ، ويدل عليه قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا)(١) وترك الشرك واجب ويدل عليه قول الخنساء (٢) :
٣٧٣٤ ـ وإنّ حراما لا أرى الدّهر باكيا |
|
على شجوه إلّا بكيت على صخر (٣) |
أي : واجبا. وأيضا فمن الاستعمال إطلاق أحد الضدين على الآخر ، وهو مجاز مشهور قال تعالى: (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(٤) ومن ثمّ قال الحسن والسدي : لا يرجعون عن الشرك. وقال (٥) قتادة : لا يرجعون إلى الدنيا (٦).
التأويل الرابع : قال مسلم بن بحر : حرام ممتنع ، وأنهم لا يرجعون ، فيكون عدم رجوعهم واجبا ، وإذا امتنع الانتفاء وجب الرجوع ، فيكون المعنى : إن رجوعهم إلى الحياة في الدار الآخرة واجب ، ويكون الغرض منه إبطال قول من ينكر البعث ، وتحقيقه ما تقدم أنه لا كفران لسعي أحد وأنه ـ تعالى ـ مجازيه يوم القيامة (٧).
وقول (٨) ابن عطية قريب من هذا فإنه قال : وممتنع على الكفرة المهلكين أنهم لا يرجعون (بل هم راجعون) (٩) إلى عذاب الله وأليم عقابه ، فتكون «لا» على بابها والحرام على بابه (١٠).
الوجه الثاني : أن الخبر محذوف ، تقديره : وحرام توبتهم أو رجاء بعثهم ، ويكون (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) علة لما تقدم من معنى الجملة. فيكون حينئذ في «لا» احتمالان :
الاحتمال الأول : أن تكون زائدة ، ولذلك قال أبو البقاء في هذا الوجه بعد تقديره الخبر المتقدم : إذا جعلت (لا) زائدة (١١).
قلت : والمعنى عنده لأنهم يرجعون إلى الآخرة وجزائها.
الاحتمال الثاني : أن تكون غير زائدة بمعنى ممتنع توبتهم ، أو رجاء بعثهم لأنهم لا يرجعون إلى الدنيا فيستدركوا فيها ما فاتهم من ذلك.
الوجه الثالث : أن يكون هذا المبتدأ لا خبر له لفظا ولا تقديرا ، وإنما وقع شيئا
__________________
(١) [الأنعام : ١٥١].
(٢) هي تماضر بنت عمرو بن الشريد ، وهي صحابية ـ رضي الله عنها ـ قدمت على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مع قومها من بني سليم وأسلمت معهم ، وكان النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يعجبه شعرها ، ويستنشدها. الخزانة ١ / ٤٣٣ ـ ٤٣٨.
(٣) البيت من بحر الطويل قالته الخنساء وليس في ديوانها ، وهو في الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢١ ، القرطبي ١١ / ٣٤٠ ، واللسان (حرم) وهو فيه منسوب إلى عبد الرحمن بن خمانة المحاربي ، جاهلي. والبحر المحيط ٦ / ٣٣٩.
(٤) [الشورى : ٤٠].
(٥) في ب : قال.
(٦) انظر هذا التأويل في الفخر الرازي ٢٢ / ٢٢١ ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٨ ـ ٣٣٩.
(٧) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٣٨.
(٨) في ب : وقرأ. وهو تحريف.
(٩) ما بين القوسين تكملة من تفسير ابن عطية.
(١٠) تفسير ابن عطية ١٠ / ٢٠٤.
(١١) التبيان ٢ / ٩٢٧.