فالجواب لا نسلم أنها (١) كانت محرمة ، أما الذهاب ، فلأن الله أمره بتبليغ الرسالة إليهم ، وما أمره بأن يبقى معهم أبدا ، فظاهر الأمر لا يقتضي التكرار ، فلم يكن خروجه من بينهم معصية. وأما الغضب لما لم يكن منهيا عنه قبل ذلك ظن أن ذلك جائز من حيث أنه لم يفعله إلا غضبا لله وأنفة لدينه ، بل كان الأولى أن يصابر وينتظر من الله الأمر بالمهاجرة عنهم ، ولهذا قال تعالى : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ)(٦) كأن (٢) الله تعالى أراد لمحمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أفضل المنازل وأعلاها.
وأما الجواب عن قوله : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) فنقول من ظن عجز الله فهو كافر ، ولا خلاف أنه لا يجوز نسبة ذلك إلى آحاد المؤمنين فكيف إلى الأنبياء ، فإن لا بدّ فيه من التأويل ، وفيه وجوه :
الأول : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) نضيق عليه كقوله : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ (٣) وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ)(٤) أي : ضيق (٥) ، وكذا قوله : (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ)(٦) أي : ضيق ، فمعناه : أن لن نضيق عليه ، وعلى هذا فالآية حجة لنا ، لأن يونس ظن أنه مخير (٧) إن شاء أقام وإن شاء خرج وأنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره ، وكان في المعلوم أنّ الصلاح في تأخير خروجه ، وهذا من الله بيان لما يجري مجرى العذر (٨) له من حيث خرج لا على تعمد المعصية لكن ظن أنّ الأمر في خروجه موسع يجوز أن يقدم ويؤخر ، وكان الصلاح خلاف ذلك.
والثاني : أن يكون هذا من باب التمثيل ، أي : فكانت حاله مماثلة لحال من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه عن قومه من غير انتظار لأمر الله.
الثالث : أن يفسسر القدر بالقضاء ، والمعنى : فظن أن لن نقدر عليه بشدة.
قال مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي ، ورواية العوفي عن ابن عباس واختيار الفراء (٩) والزجاج (١٠) : يقال : قدر الله الشيء قدرا وقدّره تقديرا فالقدر بمعنى التقدير ، وتقدم قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري بضم النون والتشديد من التقدير (١١).
__________________
(١) في ب : أنه. وهو تحريف.
(٦) [الفجر : ١٦].
(٢) في ب : فإن.
(٣) [الرعد : ٢٦] ، وفي ب : «لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ» [العنكبوت : ٦٢].
(٤) [الطلاق : ٧].
(٥) في الأصل : يضيق.
(٦) [الفجر : ١٦].
(٧) في الأصل : مخيرا.
(٨) في الأصل : القدر ، وفي ب : الغدر. والصواب ما أثبته.
(٩) قال الفراء : (وقوله : «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» يريد أن لن نقدر عليه من العقوبة ما قدرنا). معاني القرآن ٢ / ٢٠٩.
(١٠) قال الزجاج :(«فظنّ أن لن نقدر عليه» أي : ظن أن لن نقدر عليه ما قدرناه من كونه في بطن الحوت ، ويقدر بمعنى يقدّر). معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٤٠٢.
(١١) تقدم قريبا.