فإن قيل : هذا المعنى حاصل للكل لقوله : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً)(١) ، ولأنّ العادة جارية بأنّ الناس في مواقف (٢) مطالبات الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من القلق ، أو لما يدهمهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معه (٣) القيام على أرجلهم وإذا (٤) كان هذا حاصلا (٥) للكل ، فكيف يدل على مزيد ذل الكفار.
فالجواب : لعل المراد أنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور في الموقف على هذه (٦) الحال ، وذلك يوجب مزيد ذلهم (٧).
قوله : «جثيّا» حال مقدرة (٨) من مفعول «لنحضرنّهم» (٩). و«جثيّا» جمع جاث جمع على فعول ، نحو قاعد وقعود ، وجالس وجلوس ، وفي لامه (١٠) لغتان :
أحدهما : الواو.
والأخرى : الياء.
يقال : جثا يجثو جثوّا ، وجثا يجثي جثيّا (١١).
فعلى التقدير الأول : يكون أصله جثوو. بواوين الأولى زائدة علامة للجمع والثانية لام الكلمة ، ثم أعلت إعلال عصيّ ودليّ ، وتقدم تحقيقه في «عتيّا» (١٢).
وعلى الثاني يكون الأصل : جثويا ، فأعل إعلال هيّن وميّت (١٣).
وعن ابن عباس : أنه بمعنى جماعات جماعات ، جمع جثوة ، وهو المجموع من
__________________
(١) [الجاثية : ٢٨].
(٢) في ب : بمواقع.
(٣) في الأصل : معها.
(٤) في ب : ولما.
(٥) في الأصل : حاصل.
(٦) في ب : هذا.
(٧) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢١ / ٢٤٢ ـ ٢٤٣.
(٨) الحال المقدرة : هي الحال المستقبلة ، وهي ما لم تحدث بعد ، ولكن يقدر وينتظر حدوثها مثل : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، أي : مقدرا ذلك ، وعليه ف (جثيّا) كوصف للكفار والشياطين لم يتحقق بعد ، ولكنه سيتحقق يوم القيامة. انظر المغني ٢ / ٤٦٥ ، والأشموني ٢ / ١٩٣.
(٩) انظر مشكل إعراب القرآن ٢ / ٦٠ ، الكشاف ٢ / ٤١٩ ، البيان ٢ / ١٣٠.
(١٠) في ب : الآية. وهو تحريف.
(١١) قال ابن منظور : (جثا يجثو ويجثي جثوّا وجثيّا على فعول فيهما ، جلس على ركبته للخصومة ونحوها) اللسان (جثا).
(١٢) عند قوله تعالى : «قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا» [مريم : ٨]. انظر اللباب ٥ / ٤٠١.
(١٣) تقلب الواو ياء إذا اجتمعت مع الياء في كلمة ، وكان السابق منهما ساكنا ، ثم تدغم الياء في الياء ، فأصل : جثيّ (على أن لامه ياء) وهيّن وميّت ، جثوي وهيون وميوت قلبت الواو للعلة السابقة وأدغمت الياء في الياء فصار : جثيا ، وهينا ، وميتا ، ثم في (جثيّا) تقلب ضمة الثاء كسرة لمناسبة الياء المشددة ثم يتبع كسر الثاء كسر الجيم. شرح الشافية ٣ / ١٣٩.