هاهنا انقطاع زكريا إلى ربه لما مسه الضر بتفرده ، وأحب من يؤنسه ويقويه على أمر دينه ودنياه ، ويقوم مقامه بعد موته ، فدعا الله تعالى دعاء مخلص عارف بقدرة ربه على ذلك ، وانتهت به الحال وبزوجه من الكبر وغيره ما يمنع من ذلك بحكم العادة (١) فقال : (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) وحيدا لا ولد لي ، وارزقني وارثا ، (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) ثناء على الله بأنه الباقي بعد فناء الخلق ، وأنه أفضل من بقي حيا (٢).
ويحتمل أن يكون المعنى : إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير الوارثين (١).
قال ابن عباس : كان سنه مائة سنة ، وسن زوجته تسعا وتسعين (٣)(فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي : فعلنا ما أراده بسؤاله ، (وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) ولدا صالحا (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) أي : جعلناها ولودا بعد ما كانت عقيما (٤). قاله أكثر المفسرين وقيل : كانت سيئة الخلق سلطة اللسان فأصلح الله خلقها (٥). وقيل : جعلها مصلحة في الدين ، فإن صلاحها في الدين من أكبر أعوانه ، لأنه يكون إعانة في الدين والدنيا (٦) واعلم أنّ قوله (وَوَهَبْنا لَهُ)(٧)(يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) يدل على أن الواو لا تفيد الترتيب ، لأنّ إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد مع أنه تعالى أخره في اللفظ (٨). ثم قال : «إنّهم» يعني الأنبياء الذين سماهم في هذه السورة (٩).
وقيل : زكريا وولده وأهله (١٠)(كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) ، والمسارعة في طاعة الله من أكبر ما يمدح المرء به ، لأنه يدل على حرص عظيم على الطاعة (١١).
قوله : «ويدعوننا» العامة على ثبوت نون الرفع قبل (نا) (١٢) مفكوكة منها وقرأت فرقة «يدعونا» بحذف نون الرفع (١٣). وطلحة بإدغامها فيها (١٤).
وهذا الوجهان فيهما إجراء نون (نا) مجرى نون الوقاية (١٥). وقد تقدم. قوله : (رَغَباً وَرَهَباً) يجوز أن ينتصبا على المفعول من أجله (١٦) ، وأن ينتصبا على أنهما مصدران واقعان موقع الحال ، أي : راغبين راهبين (١٧) ، وأن ينتصبا على المصدر الملاقي لعامله
__________________
(١) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٧.
(٢) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٧.
(١) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٧.
(٣) المرجع السابق.
(٤) وهو قول قتادة وسعيد بن جبير وأكثر المفسرين. الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٧ ، القرطبي ١١ / ٣٣٦.
(٥) وهو قول ابن عباس وعطاء. الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٧ ، القرطبي ١١ / ٣٣٦.
(٦) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٧.
(٧) ووهبنا له : سقط من ب.
(٨) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٧ ـ ٢١٨.
(٩) انظر البغوي ٥ / ٥٢٨ ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٦.
(١٠) في ب : وأهله وولده. الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٨.
(١١) انظر الفخر الرازي ٢٢ / ٢١٨.
(١٢) في ب : أنها. وهو تحريف.
(١٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٣٦.
(١٤) أي : بإدغام نون الرفع في «نا» ضمير النصب ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٦.
(١٥) ذلك أن نون الوقاية مع نون الإعراب لها ثلاثة أوجه : حذف إحداهما ، وإدغام نون الإعراب في نون الوقاية وإثباتهما بلا ادغام. شرح الكافية ٢ / ٢٢.
(١٦) انظر التبيان ٢ / ٩٢٥ ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٦.
(١٧) المرجعان السابقان.