«الطّير» فلا امتناع أن يصدر عنها الكلام ، ولكن أجمعت الأمة على أنّ المكلفين إمّا الجن والإنس والملائكة فيمتنع فيها أن تبلغ في العقل إلى درجة التكليف بل يكون حاله كحال الطفل في أن يؤمر وينهى. وإن لم يكن مكلفا فصار ذلك معجزة من حيث جعلها في الفهم بمنزلة المراهق. وأيضا فيه (١) دلالة على قدرة الله وعلى تنزيهه عمّا لا يجوز فيكون القول فيه كالقول في الجبال (٢). وقدم الجبال على الطير ، لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز ، لأنها جماد والطير حيوان (٣).
ثم قال : (وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي : قادرين على أن نفعل هذا وإن كان عجبا عندكم وقيل : نفعل ذلك بالأنبياء ـ عليهمالسلام (٤) ـ.
الإنعام الثاني قوله : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ) الجمهور على فتح اللام (٥) من «لبوس» وهو الشيء المعد للبس قال الشاعر :
٣٧٣٠ ـ ألبس لكلّ حالة لبوسها |
|
إمّا نعيمها وإمّا بوسها (٦) |
والمراد باللبوس هنا الدرع لأنها تلبس ، وهي في اللغة اسم لكل ما يلبس. ويستعمل في الأسلحة كلها ، وهو بمعنى الملبوس كالحلوب (٧) والركوب.
وقرىء «لبوس» بضم اللام (٨) ، وحينئذ إما أن يكون جمع لبس المصدر الواقع موقع المفعول ، وإما أن لا يكون واقعا موقعه ، والأول أقرب. و«لكم» يجوز أن يتعلق ب «علّمناه» (٩) ، وأن يتعلق ب «صنعة» قاله أبو البقاء (١٠) ، وفيه بعد. وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «لبوس» (١١). قال قتادة: أول من صنع الدروع وسردها وحلقها داود وإنما كانت صفائح (١٢).
قوله : «لتحصنكم». هذه لام كي (١٣) ، وفي متعلقها أوجه :
أحدها : أن تتعلق ب «علّمناه» (١٤) ، وهذا ظاهر على القولين الآخرين وأما على
__________________
(١) فيه : تكملة ليست في المخطوط.
(٢) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٩٩ ـ ٢٠٠.
(٣) انظر الكشاف ٣ / ١٧.
(٤) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٣٢.
(٦) رجز قاله بيهس الفزاري ، وهو في إصلاح المنطق ٣٣٣ ، الكشاف ٣ / ١٧ القرطبي ١١ / ٣٢٠ ، اللسان (لبس). شرح شواهد الكشاف (١٤٠).
(٧) في ب : كالمحلوب. وهو تحريف.
(٨) البحر المحيط ٦ / ٣٣٢.
(٩) انظر التبيان ٢ / ٩٢٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٢.
(١٠) التبيان ٣ / ٩٢٣.
(١١) انظر التبيان ٢ / ٩٢٣ ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٢.
(١٢) انظر البغوي ٥ / ٥٠٦.
(١٣) والفعل المضارع بعدها منصوب ب (أن) مضمرة على مذهب البصريين وذهب الكوفيون إلى أنّ اللام ناصبة بنفسها. انظر شرح الأشموني ٣ / ٢٩٢.
(١٤) انظر التبيان ٢ / ١٢٤ ، البحر المحيط ٦ / ٣٣٢.