فصل
قال مقاتل (١) : لما اجتمع نمروذ وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا له بنيانا كالحظيرة ، وذلك قوله : (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ)(٢). ثم جمعوا له الحطب الكثير ، حتى إنّ الرجل أو المرأة لو مرضت قالت : إن عافاني الله لأجمعن حطبا لإبراهيم. وقيل : بنوا آتونا بقرية يقال لها كوثى.
ثم جمعوا له أصلاب الحطب من أصناف الخشب مدة أربعين يوما ، وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها ، فتلقيه فيه احتسابا في دينها ، فلما اشتعلت النار ، واشتدت حتى أن كانت الطير لتمر به وهي في أقصى الجو فتحترق من شدة وهجها. روي أنّهم لم يعلموا كيف يلقوه فيها؟ فجاء إبليس وعلمهم عمل (٣) المنجنيق (٤) فعملوه. وقيل : صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له : هيزن ، وكان أول من صنع المنجنيق ، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. ثم عمدوا إلى إبراهيم ـ عليهالسلام (٥) ـ فوضعوه فيه مقيدا مغلولا ، فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة صيحة واحدة : أي ربنا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم ، وإنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته ، فقال سبحانه : «إن استغاث بأحد منكم أو دعاه فلينصره ، فقد أذنت له في ذلك ، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليّه فخلوا بيني وبينه ، فإنه خليلي ليس لي خليل (٦) غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري» (٧).
فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه فقال : إن أردت أخمدت النار. وأتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء (٨).
فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليكم ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض من يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل.
قال ابن عباس : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(٩) قالها إبراهيم حين ألقي في النار ، وقالها محمد حين قيل له : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ)(١٠) فحين ألقي في النار قال : «لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك
__________________
(١) من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨.
(٢) [الصافات : ٩٧].
(٣) في ب : عمر. وهو تحريف.
(٤) المنجنيق والمنجنيق ، بفتح الميم وكسرها ، والمنجنوق : القذاف التي ترمى بها الحجارة ، دخيل أعجمي معرب. اللسان (مجنق).
(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(٦) خليل : سقط من ب.
(٧) إله : سقط من ب.
(٨) في ب : في الهوى.
(٩) [آل عمران : ١٧٣].
(١٠) [آل عمران : ١٧٣ ، ١٧٤].