اعلم أن الله تعالى إنّما قدّم قصّة يحيى ـ عليه الصلاة والسلام ـ على قصّة عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأنّ الولد أعني : لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من خلق الولد لا من الأب ألبتّة ، وأحسن طرق التعليم والتفهيم الترقّي من الأقرب فالأقرب ، إلى الأصعب فالأصعب.
قوله : (إِذِ انْتَبَذَتْ) : في «إذ» أوجه :
أحدها : أنّها منصوبة ب «اذكر» على أنّها خرجت عن الظرفيّة ؛ إذ يستحيل أن تكون باقية على [مضيّها] ، والعامل فيها ما هو نصّ في الاستقبال.
الثاني : أنّه منصوب بمحذوف مضاف لمريم ، تقديره : واذكر خبر مريم ، أو نبأها ؛ إذ انتبذت ، ف «إذ» منصوب بذلك الخبر ، أو النبأ.
والثالث : أنّه منصوب بفعل محذوف ، تقديره : وبيّن ، أي : الله تعالى ، فهو كلام آخر ، وهذا كما قال سيبويه (١) في قوله : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) [النساء : ١٧١] وهو في الظرف أقوى ، وإن كان مفعولا به.
والرابع : أن يكون منصوبا على الحال من ذلك المضاف المقدّر ، أي : خبر مريم ، أو نبأ مريم ، وفيه بعد ، قاله أبو البقاء (٢).
والخامس : أنه بدل من «مريم» بدل اشتمال ، قال الزمخشريّ : «لأنّ الأحيان مشتملة على ما فيها ، وفيه : أن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا ؛ لوقوع هذه القصّة العجيبة فيه».
قال أبو البقاء (٣) ـ بعد أن حكى عن الزمخشريّ هذا الوجه ـ : «وهو بعيد ؛ لأنّ الزمان إذا لم يكن حالا من الجثّة ، ولا خبرا عنها ، ولا صفة لها ، لم يكن بدلا منها» انتهى. وفيه نظر ؛ لأنه لا يلزم من عدم صحّة ما ذكر عدم صحّة البدلية ؛ ألا ترى نحو : «سلب زيد ثوبه» ف «ثوبه» لا يصحّ جعله خبرا عن «زيد» ولا حالا منه ، ولا وصفا له ، ومع ذلك ، فهو بدل اشتمال.
السادس : أنّ «إذ» بمعنى «أن» المصدرية ؛ كقولك : «لا أكرمك إذ لم تكرمني» أي: لأنّك لا تكرمني ، فعلى هذا يحسن بدل الاشتمال ، أي : واذكر مريم انتباذها ، ذكره أبو البقاء (٤).
وهو في الضعف غاية. و«مكانا» : يجوز أن يكون ظرفا ، وهو الظاهر وأن يكون مفعولا به على معنى : إذ أتت مكانا. قوله : (انْتَبَذَتْ) الانتباذ : افتعال من النّبذ ، وهو الطّرح ، والإلقاء ، ونبذة : بضمّ النون ، وفتحها أي : ناحية ، وهذا إذا جلس قريبا منك ؛
__________________
(١) ينظر : الكتاب ١ / ١٤٣.
(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ١١١.
(٣) ينظر : المصدر السابق.
(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ١١١.