واتفقوا على أن تلك الآية هي تعذر الكلام عليه ، فإن مجرّد السكوت مع القدرة على الكلام لا يكون معجزة ، ثم اختلفوا على قولين :
أحدهما : أنه اعتقل لسانه أصلا.
والثاني : أنه امتنع عليه الكلام مع القوم على وجه المخاطبة ، مع أنه كان متمكنا من ذكر الله ، ومن قراءة التوراة ، وهذا القول عندي أصحّ ؛ لأن اعتقال اللسان مطلقا قد يكون لمرض ، وقد يكون من فعل الله ، فلا يعرف زكريا عليهالسلام أن ذلك الاعتقال معجز إلا إذا عرف أنه ليس لمرض ، بل لمحض فعل الله تعالى مع سلامة الآلات ، وهذا مما لا يعرف إلا بدليل آخر ، فتفتقر تلك الدلالة إلى دلالة أخرى ، أما لو اعتقل لسانه عن الكلام ، مع القوم ، مع اقتداره على التكلم بذكر الله تعالى وقراءة التوراة ، علم بالضرورة ؛ أن ذلك الاعتقال ليس لعلّة ومرض ، بل هو لمحض فعل الله ، فيتحقق كونه آية ومعجزة ، ومما يقوي ذلك قوله تعالى : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) خص ذلك بالتكلم مع الناس ؛ وهذا يدلّ بطريق المفهوم ؛ أنه كان قادرا على التكلّم مع غير الناس.
قوله : «سويّا» : حال من فاعل «تكلّم» ، وعن ابن عباس : أنّ «سويّا» من صفة الليالي بمعنى «كاملات» ، فيكون نصبه على النعت للظرف ، والجمهور على نصب ميم «تكلّم» جعلوها الناصبة. وابن أبي عبلة بالرفع ، جعلها المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، و«لا» فاصلة ، وتقدّم تحقيقه.
وقوله : (أَنْ سَبِّحُوا) : يجوز في «أن» أن تكون مفسّرة ل «أوحى» ، وأن تكون مصدرية مفعولة بالإيحاء ، و (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ظرفا زمان للتسبيح ، وانصرفت «بكرة» ؛ لأنه لم يقصد بها العلميّة ، فلو قصد بها العلمية ، امتنعت من الصّرف ، وسواء قصد بها وقت بعينه ؛ نحو : لأسيرنّ الليلة إلى بكرة ، أم لم يقصد ؛ نحو : بكرة وقت نشاط ؛ لأنّ علميّتها جنسيّة ؛ كأسامة ، ومثلها في ذلك كله «غدوة».
وقرأ طلحة «سبّحوه» بهاء الكناية ، وعنه أيضا : «سبّحنّ» بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة مؤكّدا بالثقيلة ، وهو كقوله : (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) [هود : ٨] ، وقد تقدّم تصريفه.
قوله تعالى : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) ، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه ؛ أن يفتح لهم الباب ، فيدخلون ويصلون ؛ إذ خرج عليهم زكريا متغيّرا لونه ، فأنكروه ، فقالوا : ما لك يا زكريا (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ).
قال مجاهد : كتب لهم الأرض ، (أَنْ سَبِّحُوا) ، أي صلوا لله ، (بُكْرَةً) ، غدوة ، (وَعَشِيًّا)، معنا أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشيا ، فيأمرهم بالصلاة ، فلما كان وقت حمل امرأته ، ومنع الكلام خرج إليهم ، فأمرهم بالصلاة إشارة.
قوله عزوجل : (يا يَحْيى) ، قيل : فيه حذف معناه : وهبنا له يحيى ، وقلنا له : يا يحيى ، (خُذِ الْكِتابَ) ، يعني التوراة ، وقيل يحتمل أن يكون كتابا خصّ الله به يحيى ،