واختلفوا في خوفه من الموالي (١) ، فقيل : خافهم على إفساد الدّين.
وقيل : خاف أن ينتهي أمره إليهم بعد موته في مال ، وغيره ، مع أنّه عرف من حالهم قصورهم في العلم والقدرة عن القيام ببعضه.
وقيل : يحتمل أن يكون الله قد أعلمه أنّه لم يبق من أنبياء بني إسرائيل نبيّ له أب إلّا نبيّ واحد ، فخاف أن يكون ذلك الواحد من بني عمّه ، إذا لم يكن له ولد ، فسأل الله أن يهب له ولدا ، يكون هو ذلك النبيّ ، والظاهر يقتضي أن يكون خائفا في أمر يهتمّ بمثله الأنبياء ، ولا يمتنع أن يكون زكريّا كان إليه مع النبوة الربانيّة من جهة الملك ؛ فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما.
وقوله : «خفت» خرج على لفظ أصل الماضي ، لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضا ؛ كقول الرجل : قد خفت أن يكون كذا ، أي : «أنا خائف» لا يريد أنه قد زال الخوف عنه.
قوله : (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي : أنّها عاقر في الحال ؛ لأنّ العاقر لا يجوز [أن تحبل في العادة](٢) ، ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلام بتقادم العهد في ذلك ، والغرض من هذا بيان استبعاد حصول الولد ، فكان إيراده بلفظ الماضي أقوى ، وأيضا : فقد يوضع الماضي ، أي : مكان المستقبل ، وبالعكس ؛ قال الله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) [المائدة : ١١٦].
وقوله : (مِنْ وَرائِي) قال أبو عبيدة : من قدّامي ، وبين يديّ.
وقال آخرون : بعد موتي.
فإن قيل : كيف علم حالهم من بعده ، وكيف علم أنّهم يبقون بعده ، فضلا عن أن يخاف شرّهم؟.
فالجواب (٣) : أنه قد يعرف ذلك بالأمارات والظنّ في حصول الخوف ، وربما عرف ببعض الأمارات استمرارهم على عادتهم في الفساد.
وقوله : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) الأكثر على أنه طلب الولد ، وقيل : بل طلب من يقوم مقامه ، ولدا كان ، أو غيره.
والأول أقرب ؛ لقوله تعالى في سورة آل عمران ؛ حكاية عنه (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) [آل عمران : ٣٨].
وأيضا : فقوله هاهنا «يرثني» يؤيّده.
وأيضا : يؤيّده قوله تعالى في سورة الأنبياء : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) [الأنبياء : ٨٩] فدلّ على أنّه سأل الولد ؛ لأنّه أخبر هاهنا أنّ له موالي ، وأنّه غير
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٥٥.
(٢) في أ : أن تكون وسودا.
(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٥٦.