فالتحديد الذي يتنافى مع النسخ هو ما إذا كان الحكم بنفسه يرتفع بانقضاء الأمد المضروب له من الأول.
رابعا : أن يتعلق النسخ بالتشريعات أي الفروع والأحكام الشرعية ولا يتناول الأصول والعقيدة كما لا يتعلق بآيات الإخبار فقوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (١) لا يصلح ناسخا لقوله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٢) لأن الآية إخبار عن واقعية لا تتغير بالوجوه والاعتبار. فما توهمه (٣) مقاتل بن سليمان يعتبر باطلا حيث جعل الآية الثانية منسوخة بالأولى.
يرد عليه :
مضافا إلى ما قلنا آنفا من أنّه لا نسخ في الأخبار ، وإنما هو في الأحكام فإن موضوع الآية الأولى رقم ١٣ هم السابقون المقربون ، وموضوع الآية الثانية رقم ٣٩ هو المؤمنون إطلاقا الذين هم أصحاب اليمين بإزاء أصحاب الشمال.
فإذا ما قيس مؤمنو هذه الأمة عبر العصور أبديا حتى قيام الساعة مع مؤمني الأمم السالفة ، فقد تكون الفئتان متساويتين من حيث الكم والمقدار أو متقاربتين ، ويصح إطلاق «كمية كبيرة» على كلتا الفئتين ، وأما إذا قيس حواريو الأنبياء والأوصياء الماضين ـ وهم السابقون المقربون إلى حواريي نبينا وأوصيائه ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ فأولئك عدد جم وهؤلاء عدد ضئيل.
وهكذا الإباحة الأصلية ترتفع بحدوث التشريع من غير أن يكون ذلك نسخا ، حيث تلك الإباحة لم تكن بتشريع ، وإنما كانت بحكم العقل الفطري (البراءة العقلية) والتي موضوعها : عدم التشريع ، فترتفع بالتشريع.
__________________
(١) سورة الواقعة : ١٣.
(٢) سورة الواقعة : ٣٩.
(٣) بهامش الجلالين ج ٢ / ١٩٧.