والاستمرار بتشريع حكم لاحق كان معلوما عند الله عزوجل من أول الأمر ، فمثلا حينما رفع تشريع الاتجاه من بيت المقدس إلى اتجاه الكعبة المشرفة ، هذا التحويل كان معلوما من أول الأمر عنده سبحانه ، وإنما شرّع الصلاة إلى بيت المقدس لفترة زمنية معينة امتحانا للعباد واختبارا لهم حسبما تقتضيه المصلحة ، وهذا تماما كما لو رأى الطبيب أن من مصلحة المريض الامتناع عن شرب الدخان لمدة أسبوع واحد ، وأيضا رأى أن من المصلحة أن لا يعلم المريض بتحديد الوقت ، فنهاه عن شرب الدخان على هذا الأساس من غير قيد ، وبعد مضي اسبوع أذن له في شرب الدخان ، فالمصلحة حينئذ تقتضي أن يرفع المنع من شرب الدخان.
وعلى هذا الأساس ينحصر معنى النسخ في إمحاء ما ظهر من إرادة الدوام ، لا إمحاء الإرادة الواقعية مما يستلزم البداء المستحيل عليه تعالى ، لأن النسخ بمعناه الباطل أي «الإزالة» الناتجة عن حالة التبدل في الرأي ، ونشوء رأي جديد مستحيل عليه تعالى ، لأنه على هذا القول يعني أن المشرّع عند ما بدّل رأيه السابق إلى رأي جديد ينتج عنه ظهور خطأ أو نقص في تشريعه السابق عثر عليه متأخرا فأبدل رأيه إلى تشريع آخر ناسخ للأول.
هذا المعنى للنسخ إنما يختص ويقتصر على المشرعين القانونيين الآدميين ولا يشمل ربّ العالمين الذي كله علم وقدرة ولطف وحكمة ، فطبيعة الآدمي الناقص أن يتبدل رأيه لعدم إحاطته بالمصالح والفاسد الكامنة وراء الأمور ، كل ذلك يستدعي أن تتبدل معلوماته بين الحين والآخر ، وهذا بخلاف الباري العليم الحكيم المحيط بالسرائر والضمائر والظواهر والبواطن ، فلديه عزوجل الإحاطة الحضورية التامة بالواقعيات في طول الزمن وعرضه على حدّ سواء ، فمثل هذا يمتنع عليه الخطأ ، لأن وقوعه في حقه تعالى دليل نقص وعجز يتنزّه عنهما الباري عزوجل.
فالنسخ المنسوب إليه تعالى نسخ في ظاهره ، أما الواقع فلا نسخ فيه أصلا ، وإنما هو حكم مؤقت وتشريع محدود من أول الأمر ، وأنه تعالى لم يشرّعه حين