وبقي هنا أن نسأل الخليفة عن علّة قصر هذه الأثرة على نفسه وأقربائه ومن جرى مجراهم من زبانيته ، أهل خلقت الدنيا لأجلهم؟ أو أن الشريعة منعت عن الصلات وإعطاء الصدقات للصلحاء الأبرار من أمّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم كأبي ذر الغفاري وعمّار بن ياسر وعبد الله بن مسعود ونظرائهم؟ فيجب عليهم أن يقاسوا الشدّة ، ويعانوا البلاء ويشملهم المنع بين منفيّ ومضروب ومهان ، وهذا سيّدهم أمير المؤمنين يقول : [إن بني أميّة ليفوّقونني تراث محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم تفويقا ـ أي يعطونني من المال قليلا كفواق الناقة ـ والله لئن بقيت لهم لأنفضنّهم نفض اللّحّام الوذام التّربة](١).
هل الجود هو بذل الرجل ماله وما تملكه ذات يده؟ أو جدحه (٢) من سويق غيره كما كان يفعل الخليفة؟ ليتنا وجدنا من يحيرنا جوابا عن مسئلتنا هذه؟ أمّا الخليفة فلم ندركه حتى نستحفي منه الخبر ، ولعلّه لو كنا مستحفين منه لسبقت الدرّة الجواب.
كان مزيج نفس الخليفة حب بني أبيه آل أميّة الشجرة الملعونة في القرآن وتفضيلهم على الناس ، وقد تنتسب ذلك في قلبه وكان معروفا منه من أوّل يومه ، وعرفه بذلك من عرفه ، قال عمر بن الخطّاب لابن عبّاس : لو وليها عثمان لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ولو فعلها لقتلوه (٣).
ولو صدق صدوره من عمر فلم جعل الانتخاب شورى بين أربعة ، ثلاثة يميلون إلى عثمان ، وواحد ـ وهو الزبير ـ إلى أمير المؤمنين عليّ عليهالسلام؟ اللهم إلّا إذا كان عمر يريد قتله ولكن بطريقة خفية ، وشيء من هذا ليس عندنا أي مستند عليه ، بل الأخبار عكس ذلك ، حيث لا نزاع بين عمر وعثمان حتى يدبّر عمر له
__________________
(١) نهج البلاغة شرح صبحي الصالح ص ١٠٤ خطبة ٧٧.
(٢) يقال : جدح جوين من سويق غيره ، مثل يضرب لمن يجود بأموال الناس.
(٣) أنساب البلاذري ج ٥ / ١٦.