إصلاحية آخذة إلى التقدم وتريد الخير لأتباعها إلّا ويتوارد على تشريعاتها نسخ متتابع ، حسب تدرجها التصاعدي نحو قمة الكمال ، تلك طبيعة محتمة لكل حركة إصلاحية أو نظام يبتغي الرفاه الاقتصادي والاجتماعي والتربوي والسياسي وغير ذلك ، فكيف إذا كانت تلك الحركة أو ذاك النظام هو خاتم الحركات الإصلاحية في العالم ، ودساتيره أشمل الدساتير المتقدمة عليه ، أعني الإسلام حيث استوعب بقوانينه ودساتيره وأحكامه كل الأزمنة ، وراعى كل الظروف والأمكنة ، وغيّر كثيرا من المفاهيم المعوجّة التي تأصلت في واقع المجتمع الجاهلي آنذاك ، وكانت عملية التغيير لتلك الأمة المتوغلة في الضلال ، والبعيدة عن معالم الحضارة إلى حدّ كبير ، تستلزم التدرج في إصدار الأحكام ليتم انتشالها من واقعها السحيق والانسجام مع سجيتها المتوحشة ، إلى واقع جديد سهل سمح ، يتعامل بمرونة مع الآخرين ويتأقلم مع مجتمعات ليست من سنخه وعلى منواله.
وطبيعة التدرّج بالأحكام تستلزم أيضا طي عقبات ومراحل متلاحقة ، بحيث يشمل هذا الطي إلغاء بعض العادات والأحكام التي كانت سائدة في عصر ما قبل الإسلام ، أسوة بمن تقدم من الشرائع السابقة على الإسلام ، حيث جرت الطريقة الإلهية أن تلغي الشريعة اللاحقة بعض أحكام كانت سائدة في الشريعة السابقة لمصالح اقتضت الظروف إيجادها.
وهكذا استدعت التشريعات الإسلامية نسخا متتاليا منذ أن ظهرت الدعوة في مكة ، وحتى إلى ما بعد الهجرة إلى المدينة ، وقد انتهت شريعة النسخ بوفاة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث انقطاع الوحي.
وكانت ظاهرة النسخ أمرا لا بد منه في كل تشريع يحاول تركيز معالمه في الأعماق ، والأخذ بيد أمة جاهلة إلى مستوى عال من الحضارة الراقية ، الأمر الذي لا يتناسب مع الطفرة المستحيلة ، لو لا الأناة والسير التدريجي المستمر خطوة بعد خطوة.