ثمّ لمّا بيّن سبحانه شدّة عذاب الطّغاة أظهر شدّة غضبه عليهم بتوجيه العتاب إليهم بقوله : ﴿فَذُوقُوا﴾ أيّها الكفرة الطّغاة طعم العذاب كما ذقتم في الدنيا لذّة مشتهياتها ﴿فَلَنْ نَزِيدَكُمْ﴾ إلى الأبد ﴿إِلَّا عَذاباً﴾ قيل : كلّما استغاثوا من عذاب اغيثوا بأشدّ منه (١) .
عن النبي صلىاللهعليهوآله : « أنّ هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النار » (٢) .
قيل : إنّهم لمّا كانوا يزيدون تدريجا في تكذيب النبي صلىاللهعليهوآله وإيذائه وإيذاء المؤمنين ، زاد الله متدرّجا في عذابهم لتحقيق الموافقة في الجزاء ، فلا يرد ما قيل من أنّه لو كان العذاب الزائد مستحقّا في أول ورودهم في جهنّم كان تركه عفوا وإحسانا ، فلا ينبغي للحكيم رجوعه عن عفوه وإحسانه ، وإن كان غير مستحقّ فزيادته ظلم (٣) ، مع أنّ التخفيف إلى مدّة لا ينافي عذابه فيما بعد.
ثمّ بيّن سبحانه حسن حال المتّقين في الآخرة بقوله : ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ﴾ والمجتنبين عن الكفر وتكذيب الرسول والمعاد والعصيان في الآخرة ﴿مَفازاً﴾ وظفرا بأقصى المطالب وأهمّ المقاصد بعد النجاة من النار ، أعني بالمفازة ﴿حَدائِقَ﴾ وبساتين ذات أشجار كثيرة وثمار وافرة لم تر مثلها عين ، ولم تسمع مثلها اذن ﴿وَأَعْناباً﴾ طيبة كثيرة. قيل : إنّما خصّها بالذكر لشرفها وفضلها (٤) .
﴿وَ﴾ لهم نساء ﴿كَواعِبَ﴾ ومستديرات الثديين ، أو مرتفعاتها و﴿أَتْراباً﴾ ومتساويات في السنّ. عن الباقر عليهالسلام : « ﴿ كَواعِبَ أَتْراباً﴾ فتيات ناهدات » (٥) .
﴿وَ﴾ ان لهم ﴿كَأْساً﴾ من خمر ﴿دِهاقاً﴾ ومملؤة كما عن ابن عباس (٦) ، أو متتابعة كما عن جماعة (٧) ، أو صافية (٨) .
وهؤلاء المتّقون الذين هم في الجنة ﴿لا يَسْمَعُونَ﴾ من أحد ﴿فِيها﴾ كلاما ﴿لَغْواً﴾ وباطلا ﴿وَلا كِذَّاباً﴾ الذي كان الطاغوت يقولونه في الآيات. والحاصل أنّ المتّقين لا يسمعون في الجنّة كلاما مشوّشا ولا كلاما ككلام الطّغات.
وقيل : إنّ ضمير ﴿فِيها﴾ راجع إلى الكأس (٩) ، والمعنى لا يسمعون في حال شربهم الخمر كلاما لغوا وباطلا ، إذ لا تتغير عقولهم ، ولا يتكلّمون بما لا فائدة فيه ، كلّ ذلك يكون ﴿جَزاءً﴾ على عقائدهم الصحيحة وأعمالهم الصالحة ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ الكريم الجواد ، ويكون ﴿عَطاءً﴾ لهم ﴿حِساباً﴾ وكافيا ، أو كثيرا زائدا عن استحقاقهم بإزاء عملهم ، فانّ الاحسان إلى المطيع بمقدار عمله واجب على الله ،
__________________
(١) تفسير الرازي ٣١ : ١٩ ، وتفسير روح البيان ١٠ : ٣٠٧ ، عن النبي صلىاللهعليهوآله.
(٢) تفسير الرازي ٣١ : ١٩ ، وتفسير روح البيان ١٠ : ٣٠٧ ، هذا الحديث والذي قبله حديث واحد.
(٣) تفسير الرازي ١٠ : ٣٠٧.
(٤) تفسير الرازي ١٠ : ٣٠٨.
(٥) تفسير القمي ٢ : ٤٠٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٧٧.
(٦- ٩) تفسير الرازي ٣١ : ٢٠.