ثمّ أقنطهم سبحانه عن الطمع في شفاعة الملائكة فضلا عن الأصنام بقوله تعالى : ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ﴾ وكثير من الروحانيين الساكنين ﴿فِي السَّماواتِ﴾ السبع ﴿لا تُغْنِي﴾ ولا تنفع ﴿شَفاعَتُهُمْ﴾ عند الله لأحد ﴿شَيْئاً﴾ من الإغناء والنفع ، وفي وقت من الأوقات ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ﴾ لهم في الشفاعة ﴿لِمَنْ يَشاءُ﴾ أن يشفعوا له ﴿وَيَرْضى﴾ عنه بتديّنه بالدين المرضي عنده ، وهو الاسلام.
وقيل : يعني من بعد أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة في الشفاعة ، ولا يؤذن لهم إلّا في الشفاعة لأهل الايمان بالتوحيد (١) ورسالة خاتم النبيين ، فانّهم آهلين للشفاعة دون الكفّار والمشركين ، هذا حال أعظم المخلوقات عند الله ، فكيف حال الأصنام اللّاتي هنّ أخسّها ؟
﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى * وَما لَهُمْ بِهِ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً * فَأَعْرِضْ عَنْ
مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا * ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٢٧)و (٣٠)﴾
ثمّ ذمّ سبحانه القائلين بانوثة الملائكة بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ عن صميم القلب وخلوص النية ﴿بِالْآخِرَةِ﴾ ودار الجزاء ﴿لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ﴾ الذين هم عباد الرحمن تسمية تشبه ﴿تَسْمِيَةَ الْأُنْثى﴾ ويقولون لهم بنات الله.
قيل : إن القائلين بأنّ الملائكة بنات الله ، لم يكونوا معتقدين بالمعاد ودار الجزاء ، بل كانوا يقولون لا حشر ولا بعث (٢) ، ولو فرض تحقيقه كانت الملائكة والأصنام شفعائنا ، ولذا اجترءوا على هذا القول ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿ما لَهُمْ بِهِ﴾ شيء ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾ وأقلّ مرتبة من اليقين ، بل ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ﴾ ولا يوافقون في قولهم هذا ﴿إِلَّا الظَّنَ﴾ والحسبان ، كما لم يتّبعوا في القول بألوهية الأصنام إلّا ذلك ﴿وَإِنَّ الظَّنَ﴾ مطلقا ، أيّ ظنّ كان ﴿لا يُغْنِي﴾ ولا يكفي ﴿مِنْ﴾ الوصول إلى ﴿الْحَقِ﴾ والواقع في العقائد ﴿شَيْئاً﴾ يسيرا من الاغناء والكفاية. قيل : إنّ المعنى : لا يغني الظنّ شيئا من الحقّ ، فانّ الحقائق لا تدرك إلّا بالعلم (٣) .
فلمّا رأيتهم لا يصغون إلى البرهان ، ولا يعتنون بالقرآن ، ولا ينصرفون عن اتّباع الظنّ والحسبان ﴿فَأَعْرِضْ﴾ يا محمد ﴿عَنْ﴾ دعوتهم إلى الحقّ بالحكمة والموعظة الحسنة ، لعدم التأثير في
__________________
(١) تفسير أبي السعود ٨ : ١٦٠ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٣٧.
(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ٣٠٨ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٣٧.
(٣) تفسير أبي السعود ٨ : ١٦٠ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٣٨.