وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (١٠) و (١١)﴾
ثمّ هدّدهم بعذاب الآخرة بقوله : ﴿أَعَدَّ اللهُ﴾ وهيّأ ﴿لَهُمْ﴾ في الآخرة بعد ذلك ﴿عَذاباً شَدِيداً﴾ لا يقادر قدرة ، ولا يوصف كنهه ، إذا كان الأمر كذلك ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ وخافوه في مخالفة أحكامه ﴿يا أُولِي الْأَلْبابِ﴾ وذوي العقول السليمة والأفهام المستقيمة ، واعتبروا بحال أمثالكم من الامم الماضية.
ثمّ وصف سبحانه أصحاب العقول السليمة من شوائب الأوهام بقوله : ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ عن صميم القلب بتوحيد الله ، فاعلموا أنه من أعظم النّعم عليكم أنّه ﴿قَدْ أَنْزَلَ اللهُ﴾ وبعث ﴿إِلَيْكُمْ﴾ بلطفه ﴿ذِكْراً﴾ وواعظا وهاديا إلى الحقّ ، أعنى ﴿رَسُولاً﴾ عظيم الشأن ، وهو ﴿يَتْلُوا﴾ ويقرأ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ مع امّيته ﴿آياتِ﴾ كتاب ﴿اللهِ﴾ وقرآنه العظيم حال كونها ﴿مُبَيِّناتٍ﴾ وموضحات لكم جميع ما تحتاجون إليه في معاشكم ومعادكم وعقائدكم من معارف ربكم وصفاته الجمالية والجلالية ﴿لِيُخْرِجَ﴾ ذلك الرسول بتلاوته ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ به وبكتابه عن صميم القلب ﴿وَعَمِلُوا﴾ الأعمال ﴿الصَّالِحاتِ﴾ بتعليمه وهدايته ﴿مِنَ الظُّلُماتِ﴾ التي بعضها فوق بعض كالكفر والشّبهات والجهل والأخلاق النميمة والشهوات المردية ﴿إِلَى النُّورِ﴾ الذي هو كمال الايمان الحقيقي والعلم والمعرفة الكاملة بالله والأخلاق الحميدة والصفات الجميلة.
قيل : إنّ المراد بالذين آمنوا الذين يؤمنون على استعمال الماضي في المستقبل المحقّق الوقوع ، أو المراد من الظلمات الظلمات التي تحدث بعد الايمان (١) .
﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً * اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ
الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ
قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١١) و (١٢)﴾
ثمّ حثّ سبحانه الناس إلى الايمان والعمل الصالح ببيان حسن عاقبتهما بقوله : ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ﴾ إيمانا خالصا من شوب النفاق ﴿وَيَعْمَلْ﴾ عملا ﴿صالِحاً﴾ خالصا من الرّياء والسّمعة والعجب ﴿يُدْخِلْهُ﴾ الله في الآخرة ﴿جَنَّاتٍ﴾ ذات قصور وأشجار كثيرة ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ الكثيرة حال كونهم ﴿خالِدِينَ﴾ ومقيمين ﴿فِيها﴾ لا يخرجون منها ﴿أَبَداً﴾ وهو تأكيد للخلود ، لأن لا يتوهّم أنّ المراد المكث الطويل المنقطع ﴿قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ﴾ في تلك الجنّات ﴿رِزْقاً﴾ واسعا وافرا من
__________________
(١) تفسير الرازي ٣٠ : ٢٩.