خَلَقَ﴾ بقوله : ﴿خَلَقَ الْإِنْسانَ﴾ الذي هو أعجب المخلوقات وأشرفها ﴿مِنْ عَلَقٍ﴾ وقطعات دم متكوّنة من نطف قذرة ، وإنّما قال : ﴿عَلَقٍ﴾ بصيغة الجمع باعتبار معنى الانسان وكثرته ، أو لمراعاة الفواصل ، فنبّه سبحانه على أنّ من خلق الانسان الحي القادر القابل للكمالات العلمية والعملية من مادة خسيسة بعيدة من الحياة ، قادر على أن يعلّمك القراءة وأنت حيّ متكلّم قابل للعلوم.
﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ * كَلاَّ إِنَّ
الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٣) و (٧)﴾
ثمّ أكّد سبحانه وجوب القراءة بقوله ثانيا : ﴿اقْرَأْ﴾ وقيل : إنّ الأول أمر بقراءته لنفسه ، والثاني أمر بقراءته للتبليغ والتعليم (١) .
ثمّ استانف سبحانه ذكر أوصافه ومننه بقوله : ﴿وَرَبُّكَ﴾ هو ﴿الْأَكْرَمُ﴾ المبالغ في الإحسان والجود حيث إنّه يحسن بعبيده بعد العصيان والتقصير كما يحسن قبله ، وإنّ كلّ كريم ينال بكرمه خيرا لنفسه ، وربّك لا يكون كرمه إلّا لمحض حسنه. وقيل : يعني أنت كريم ، وربّك أكرم منك (٢) ، ومن كرمه أنّه ﴿الَّذِي عَلَّمَ﴾ الانسان الكتابة ﴿بِالْقَلَمِ﴾ وفيه تنبيه على فضيلة الكتابة والخطّ.
روي عن سليمان عليهالسلام أنّه سأل عفريتا عن الكلام فقال : ريح لا يبقى. قال : فما قيده ؟ قال : الكتابة (٣) .
قيل : إنّ القلم لا ينطق ، ومع ذلك يسمع الشرق والغرب (٤) ولو لا الخطّ ما استقامت امور الدين والدنيا (٥) .
وقيل : إنّ المراد علّم الانسان بسبب الكتابة وقراءة الكتب ، فالقلم كناية عن الكتابة (٦) .
ثمّ بيّنه بقوله : ﴿عَلَّمَ الْإِنْسانَ﴾ بسبب مطالعة الكتب ﴿ما لَمْ يَعْلَمْ﴾ وأمّا على التفسير الأول يكون تعليمه علوما كثيرة نعمة فوق نعمة تعليم الخطّ ، فذكر سبحانه في السورة مبدأ الانسان ومنتهاه ، وامتنّ عليه بنقله من أدنى المراتب وهي المرتبة العلقية الخسيسة النجسة إلى أعلاها ، وهي مرتبة العلم ، وهو أشرف الكمالات الانسانية ، ومن الواضح أنّ ذلك لا يكون إلّا بقدرة قادر حكيم ، فيدلّ على ربوبيته وأكرميته واستحقاقه للطاعة والعبودية.
﴿كَلَّا﴾ لا يعلم الانسان أنّ الله هو الذي خلقه من العلقة وعلّمه بعد جهله ، ثمّ بيّن سبحانه علّة غفلته بقوله : ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى﴾ ويتكبّر ويصير مستغرق القلب في حبّ الدنيا لأجل ﴿أَنْ رَآهُ﴾ وعلم
__________________
(١و٢) تفسير الرازي ٣٢ : ١٦.
(٣و٤) تفسير الرازي ٣٢ : ١٧.
(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٣.
(٦) تفسير الرازي ٣٢ : ١٧.