ثمّ أنكر سبحانه على الكفّار إنكار علمه تعالى بمخلوقه بقوله : ﴿أَلا يَعْلَمُ﴾ وهل لا يحيط ﴿مَنْ خَلَقَ﴾ شيئا بمخلوقه ؟ ماهية وصفة ومقدارا ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿هُوَ اللَّطِيفُ﴾ والعالم بخفيّات الامور ودقائق الأشياء ﴿الْخَبِيرُ﴾ والمحيط ببواطنها. قيل : اللطيف من يعلم دقائق المصالح وغوامضها ، ثمّ يوصلها إلى المستصلح بالرّفق دون العنف ، والخبير من لا يعزب عنه الأخبار الباطنة ، فلا يجري في الملك والملكوت شيء حتى حركة الدّودة في بطن صخرة إلّا وعنده خبره وعلمه (١) .
ثمّ رجع سبحانه إلى آثار قدرته في الأرض بعد ذكر آثارها في السماوات بقوله : ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ﴾ بقدرته نفعا ﴿لَكُمُ﴾ أيّها الناس ﴿الْأَرْضَ﴾ بأقطارها ﴿ذَلُولاً﴾ ومنقادة لكم غاية الانقياد ، لتنتفعوا بها بالسّكونة ، والزّرع والغرس ، وحفر الآبار ، وشقّ العيون والأنهار ، وبناء الأبنية ، ودفن الأموات وغيرها ﴿فَامْشُوا فِي مَناكِبِها﴾ واسلكوا في جوانبها وأطرافها ، أو في جبالها فضلا عن سهلها كما عن ابن عباس (٢)﴿وَكُلُوا مِنْ﴾ نعم الله و﴿رِزْقِهِ﴾ الذي أحلّ لكم ﴿وَإِلَيْهِ﴾ تعالى وحده ﴿النُّشُورُ﴾ والمرجع بعد البعث من قبوركم ، فاجتهدوا في شكره ، وجدّوا في طاعته.
قيل : إنّ وجه نظم هذه الآية أنّه تعالى بعد تهديد الكفّار بعلمه بسرّهم وعلنهم ، بالغ في تهديدهم بقوله : ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ﴾ فهو نظير أن يقول المولى لعبده العاصي : كن في هذه الدار ، وكل هذا الخبز ، ولا تأمن من تأديبي (٣) .
﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ
مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٦) و (١٧)﴾
ثمّ هدّد الكفّار على ترك شكر نعمه بقوله : ﴿أَأَمِنْتُمْ﴾ أيّها المكذّبون الكافرون لنعم الله ﴿مَنْ فِي السَّماءِ﴾ نفاذ أمره ، وظهور كمال قدرته وسلطانه وملكه ، أو المراد بمن في السماء جبرئيل الموكّل بالعذاب ﴿أَنْ يَخْسِفَ﴾ ويقلب ﴿بِكُمُ الْأَرْضَ﴾ ويغلبكم في بطنها بعد جعلها لكم ذلولا تمشون في مناكبها وتأكلون ممّا ينبت فيها بكفرانكم نعمه ﴿فَإِذا هِيَ﴾ بعد أن خسفت بكم ﴿تَمُورُ﴾ وتضطرب وتتحرّك ذهابا ومجيئا لتبلغكم إلى الطبقة السّفلى منها تعذيبا لكم كما فعلت بقارون.
ثمّ بالغ سبحانه في تهديدهم بقوله : ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ﴾ أيّها الكفار ﴿مَنْ فِي السَّماءِ﴾ من ﴿أَنْ يُرْسِلَ﴾ وينزل ﴿عَلَيْكُمْ﴾ منها تعذيبا لكم ﴿حاصِباً﴾ ومطر حجارة كما أرسل على قوم لوط ، فاذا لا أمان
__________________
(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٨٧.
(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٦٩.
(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ٦٨.