بدل ما يتحلّل ، فهو في هذا العالم يتجدّد خلقه ، والله تعالى في كلّ يوم من خلقه ، بل من خلق العالم في شأن ، وعليه يكون معنى الآية أنّه لا يختصّ تجديد خلقهم بما بعد خروجهم من الدنيا ، بل هم في هذه الدنيا متلبّسون في كلّ يوم بخلق آخر جديد (١).
وعن الباقر عليهالسلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « تأويل ذلك أن الله تعالى إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم ، وسكن أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، جدّد الله عالما آخر غير هذا العالم ، وجدّد خلقا من غير فحوله ولا إناث يعبدونه ويوحدّونه ، وخلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم ، وسماء غير هذه السماء تظلّلهم ، لعلك ترى أن الله إنّما خلق هذا العالم الواحد ، أو ترى أنّ الله لم يخلق بشرا غيركم ؟ بلى والله لقد خلق الله ألف ألف عالم ، وألف ألف آدم ، وأنت في آخر تلك العوالم ، واولئك الآدميين » (٢).
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ * ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٦) و (١٨)﴾
ثمّ بيّن سبحانه كمال قدرته وسعة علمه المبنيين لإمكان الخلق الجديد بقوله : ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا﴾ بقدرتنا الكاملة ﴿الْإِنْسانَ﴾ في الدنيا من غير مثال سابق ﴿وَنَعْلَمُ﴾ بذاتنا ﴿ما تُوَسْوِسُ﴾ وتحدّث ﴿بِهِ نَفْسُهُ﴾ وتخطر على قلبه من خير أو شر ، أو خطرات السوء الحاصلة بإلقاء الشيطان ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ﴾ علما ﴿إِلَيْهِ﴾ من كلّ قريب حتى ﴿مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ والعرق المتّصل بقلبه المخالط للحمه ، وفيه مجاري روحه الحيواني ، وهو كناية عن نهاية القرب ، والمعنى أنّ الله تعالى أقرب إلى الانسان من روحه ونفسه ﴿إِذْ يَتَلَقَّى﴾ وحين يتلقّن الملكان ﴿الْمُتَلَقِّيانِ﴾ والآخذان من الانسان فعله وقوله ، وكاتبان عليه كلّما يصدر منه ، فليس توكيلهما عليه لكتابة أعماله للحاجة في الاطلاع على أعماله إلى ضبطهما وثبتهما أعماله ، لأنّا أقرب إليه من كلّ قريب ، وأعلم بحاله من نفسه ، بل لكونه بعد الاطلاع على أنّ عليه ملكين موكلين لكتابة أعماله ، أدعى له إلى الطاعة ، وأزجر له عن المعصية ، وكلّ منهما ﴿عَنِ الْيَمِينِ﴾ من الانسان ﴿وَعَنِ الشِّمالِ﴾ منه ﴿قَعِيدٌ﴾ وجالس.
﴿ما يَلْفِظُ﴾ وما يرمى به ﴿مِنْ قَوْلٍ﴾ وكلام خير أو شرّ ﴿إِلَّا لَدَيْهِ﴾ ملك ﴿رَقِيبٌ﴾ يراقب ذلك القول ويكتبه في صحيفته ، وهو ﴿عَتِيدٌ﴾ ومهيأ لكتابته ، أو هو حاضر عنده أينما كان ، لا يفارقه ولا
__________________
(١) تفسير روح البيان ٩ : ١١١.
(٢) التوحيد : ٢٧٧ / ٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٦٠.