مضرّة ، لأنّ الذي يكون سببا للألفة أولى ممّا يكون سببا للوحشة (١) .
والعجب أنّه يظهر من آخر كلامه أنّ ترك الصدقة كان أولى من التصدّق ، وهو مناف للروايات الدالة على فضيلة أمير المؤمنين عليهالسلام بالعمل بالآية والتصدّق قبل مناجاته النبي صلىاللهعليهوآله ، وتوبيخ الله سبحانه تاركي التصدّق بقوله : ﴿أَأَشْفَقْتُمْ﴾ أيّها المسلمون وخفتم من ﴿أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ﴾ وقبل مسارّتكم مع النبي صلىاللهعليهوآله ﴿صَدَقاتٍ﴾ قيل : إفراد الصدقة أولا لكفاية شيء قليل منها ، وإتيانها بصيغة الجمع هنا لكثرة التناجي والمناجي (٢) .
ثمّ لمّا ظهر حال المؤمن الصادق في إيمانه المشتاق إلى مكالمة النبي صلىاللهعليهوآله مثل أمير المؤمنين عليهالسلام ، والمنافق غير المشتاق ، نسخ سبحانه الحكم بقوله : ﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ ما امرتم به ، وبخلتم وشقّ عليكم بذل أقلّ قليل من أموالكم لدرك مكالمة النبي صلىاللهعليهوآله ، وتحصيل علم دينكم ، وهو ذنب ، رفع ذلك الحكم ﴿وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ﴾ وقبل ندامتكم ، وعفا عنكم ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ فيما يكلّفانكم (٣) من فعل سائر الواجبات وترك المحرّمات ﴿وَاللهُ﴾ العالم بكلّ شيء ﴿خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ فيجازيكم عليه إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ.
قال أبو مسلم الأصفهاني من مفسّري العامة : إنّ الآية ليست ناسخة ، فانّ المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات ، وإن قوما تركوا النفاق وآمنوا ظاهرا وباطنا ، فأراد الله أن يميّزهم ، فأمر بتقديم الصدقة على النجوى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيمانا حقيقيا عمّن بقي على نفاقه ، وإذا كان هذا التكليف لهذه المصلحة المقدّرة بذلك الوقت ، لا جرم يقدّر هذا التكليف بذلك الوقت (٤) .
في ردّ أبي مسلم الأصفهاني
أقول : حاصل قوله : إنّ مصلحة التكليف بالصدقة قبل النجوى ، كانت في الواقع وفي علم الله مقدّرة بغاية مخصوصة ، فوجب انتهاء التكليف عند انتهاء مقتضيه إلى الغاية ، ومقتضى كلامه أنّ غير أمير المؤمنين عليهالسلام من أغنياء الصحابة كانوا منافقين ، لامتناعهم عن التصدّق ، وبعد ظهور حالهم ارتفع التكليف.
ثمّ اعلم أنّه لا معنى للنسخ عندنا إلّا إطلاق الحكم في الظاهر وتقييده في الواقع بوقت معين ، وإلّا يلزم البداء ، ولذا توافقت الروايات العامة والخاصة في كون الآية ناسخة لإيجاب الصدقة.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٧٢.
(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٦.
(٣) في النسخة : يكلفونكم.
(٤) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٧٢.