وعن ابن عباس : معناه أنّ بعضهم عدو للبعض (١) ، ويدلّ عليه قوله : ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً﴾ ومتّفقين ومؤتلفين ومتحابّين في الظاهر ﴿وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ ومتفرقة لا الفة بينهم ، لأنّ لكلّ واحد منهم مذهبا غير مذهب الآخرين ، ولذا بينهم في الواقع عداوة شديدة.
﴿ذلِكَ﴾ التشتّت بين قلوبهم ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ﴾ ولا يدركون أنّ تشتّت القلوب يوهن قوّتهم ، وتقلّ به حظوظهم ، أو لا يعقلون شيئا حتّى يعرفوا الحقّ فيتّبعوه وتتّحد كلمتهم. اعلموا أنّ مثل هؤلاء اليهود والمنافقين وحالهم العجيبة ﴿كَمَثَلِ﴾ الكفّار ﴿الَّذِينَ﴾ حاربوا الرسول في بدر ، أو كمثل بني قينقاع على ما قيل من أنّهم كانوا أشجع اليهود وأكثرهم أموالا ، فلمّا كانت وقعة بدر أظهروا البغي والحسد ، ونبذوا العهد كبني النّضير ، فأخرجهم رسول الله (٢) من المدينة إلى الشام (٣)﴿مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً﴾ من زمانهم. قيل : قبل ستة أشهر من قضية بني النّضير (٤) ، أو قيل : سنة (٥) . فانّهم ﴿ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ﴾ ورأوا سوء عاقبة كفرهم في الدنيا ﴿وَلَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ لا يقادر قدره ، ومثل المنافقين الذين غرّروا اليهود ووعدوهم النصر ثمّ خذلوهم ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطانِ﴾ الغويّ ﴿إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ﴾ إغراء وإغواء : ﴿اكْفُرْ﴾ بالله وبرسوله ﴿فَلَمَّا كَفَرَ﴾ الانسان بإغوائه وحلّ به العذاب في القيامة - وقيل : إنّ المراد بالانسان أبو جهل (٦) ، ومعنى ( اكفر ) دم على كفرك ، فلمّا كفروا جاء إلى بدر ، وابتلى بالقتال - ﴿قالَ﴾ الشيطان له ، ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ﴾ ومنقطع عنك ﴿إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ﴾ من أن يعذّبني بأشدّ العذاب. قيل : هذا من كذبات اللّعين (٧) . وقيل : إنّه قال ذلك استهزاء (٨) ، ولو كان صادقا لم يستمرّ على عصيان الله ﴿فَكانَ﴾ مآل كفر الانسان والشيطان المغوي له و﴿عاقِبَتَهُما﴾ في الآخرة ﴿أَنَّهُما فِي النَّارِ﴾ التي سجّرها الجبّار بغضبه حال كونهما ﴿خالِدَيْنِ﴾ ومقيمين ﴿فِيها﴾ لا خلاص لهما منها أبدا ﴿وَذلِكَ﴾ العذاب المقيم ﴿جَزاءُ الظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهما العاصين لله ، وكذلك كان عاقبة اليهود والمنافقين.
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ
خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ (١٨) و (١٩)﴾
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٩٠.
(٢) في النسخة : فأخرجوا بالرسول.
(٣و٤) تفسير روح البيان ٩ : ٤٤٢.
(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٤٤٣.
(٦ - ٨) تفسير روح البيان ٩ : ٤٤٣.