جزاء الأعمال وابتلائنا بالعذاب.
ثمّ لمّا كان غرضهم من السؤال الاستهزاء ، هدّدهم بما يشبه الجواب وليس بجواب بقوله : ﴿يَوْمَ هُمْ﴾ فيه ﴿عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ ويعذّبون بها ، كما يفتن الذهب بالنار ويحرق خبثه. قيل : يعني يعرضون على النار كعرض المجرّب للذهب المذهّب عليها (١) ، كأنّهم يجرّبون عليها ، وتقول لهم خزنة جهنّم حين تعذيبهم : ﴿ذُوقُوا﴾ أيّها المنكرون للحشر ﴿فِتْنَتَكُمْ﴾ وعذابكم ، أو ما به امتحانكم وابتلاؤكم في الدنيا من العقائد والأعمال ﴿هذَا﴾ العذاب ﴿الَّذِي﴾ يتذوّقونه الآن ما ﴿كُنْتُمْ بِهِ﴾ في الدنيا ﴿تَسْتَعْجِلُونَ﴾ استهزاءا بالرسول وبإخبارنا به في كتابنا ، وسخرية منه حيث كنتم تقولون : متى هذا الوعد ، أو أيّان يوم الدين.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ
مُحْسِنِينَ * كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ (١٥) و (١٨)﴾
ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء عاقبة المشركين وشدّة عذابهم في الآخرة ، بيّن حسن عاقبة المتّقين والمجتنبين عن الشرك والكفر والعصيان في الدنيا ، المحترزين من عذاب الله في الآخرة بقوله : ﴿إِنَ﴾ المؤمنين ﴿الْمُتَّقِينَ﴾ عن الشرك والعصيان في الدنيا ، متمكّنون في الآخرة ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ وبساتين ذات قصور وبهاء وبهجة لا يمكن توصيفها ﴿وَ﴾ في ظلال ﴿عُيُونٍ﴾ غريزة ، وأنهار جارية في أطرافهم بحيث يرونها ويفرحون بالنظر إليها حال كونهم ﴿آخِذِينَ﴾ وقابلين ﴿ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ بفضله من النّعم الجسام ، وراضين به لغاية جودته وكماله.
قيل : في قوله : ﴿ما آتاهُمْ﴾ بصيغة الماضي ، دلالة على أنّ الإعطاء والتمليك كان في الدنيا ، والقبول والأخذ كان منهم في الآخرة (٢) .
ثمّ بيّن الله سبحانه علّة الإنعام على المتّقين بتلك النّعم العظيمة الجسمية بقوله : ﴿إِنَّهُمْ كانُوا﴾ في العالم الذي كان ﴿قَبْلَ ذلِكَ﴾ العالم ، وهو عالم الدنيا ﴿مُحْسِنِينَ﴾ في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم ، فأعطوا بذلك أحسن الجزاء ، وكان من حسناتهم أنّهم ﴿كانُوا﴾ في الدنيا مقدارا وزمانا ﴿قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ﴾ ووقت نوم جميع الناس ﴿ما يَهْجَعُونَ﴾ وينامون ، وزمانا كثيرا منه يذكرون الله ، ويصلّون ويعبدون.
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٨ : ١٩٩.
(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ٢٠١.