أنهم ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ﴾ ومساكنهم ﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾ ليسدّوا بأخشابها وحجارتها أبواب الأزقّة ، أو لئلا تبقى بعد جلائهم للمسلمين ، أو لينقلوا معهم بعض آلاتها المرغوب فيها ﴿وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾. قيل : إنّهم كانوا يخربون بيوتهم من داخل ، والمسلمون من خارج (١) .
وقيل : إنّهم درّبوا (٢) على الأزقّة وحصّنوها ، افنقضوا بيوتهم وجعلوها كالحصون على أبواب الأزقّة ، وكان المسلمون يخربون سائر جوانبها (٣) .
وقيل : إنّ المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد ، واليهود لمّا أيقنوا بالجلاء يخربون البيوت ، لينزعوا الأخشاب والأبواب وغيرها من الآلات الحسنة ، ويحملوها معهم (٤) .
ثمّ لمّا بيّن سبحانه سوء عاقبة الغدر والكفر ، وإبادته شوكة اليهود وكسر قوّتهم ، أمر أهل البصيرة بالاعتبار بقوله : ﴿فَاعْتَبِرُوا﴾ واتّعظوا ﴿يا أُولِي الْأَبْصارِ﴾ فلا تغدروا ، ولا تعتمدوا على غير الله في أمر من الامور. عن ابن عباس : يريد يا أهل اللّب والعقل والبصائر (٥) .
: ﴿وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ﴾ في حقّ بني النّضير ، وقدّر ﴿عَلَيْهِمُ﴾ بمقتضى حكمته البالغة ﴿الْجَلاءَ﴾ الخروج من أوطانهم ﴿لَعَذَّبَهُمْ﴾ بالقتل والأسر ، أو بعذاب الاستئصال ﴿فِي الدُّنْيا﴾ على كفرهم وغدرهم ﴿وَلَهُمْ﴾ مع الجلاء ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ بعد خروجهم من الدنيا ﴿عَذابُ النَّارِ﴾ لا نجاة لهم منه : ﴿ذلِكَ﴾ الجلاء ﴿بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ وعاندوهما ، وخالفوا عهدهما ﴿وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ﴾ كائنا من كان ، يعاقبه الله أشدّ العقاب ﴿فَإِنَّ اللهَ﴾ على من شاقّه وخالفه ﴿شَدِيدُ الْعِقابِ﴾.
ثمّ روي أنّ النبي صلىاللهعليهوآله أمر بقطع نخيل اليهود وإحراقها ، فجاؤوا إليه ، وقالوا : يا محمد ، إنّك قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض ، فما بال قطع النخيل وتحريقها ؟ وكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء فنزلت (٦) : ﴿ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ ونخلة كريمة قصيرة طيبة الثمرة ، أو أيّ نخل من نخيلهم بأنواعها ﴿أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها﴾ كما كانت ، ولم تقطعوها ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ وأمره لمصلحة ازدياد غيظ الكفّار وتضاعف حسرتهم بسبب نفاذ حكم أعدائهم في أعزّ أموالهم ﴿وَلِيُخْزِيَ﴾ ويذلّ اليهود ﴿الْفاسِقِينَ﴾ الخارجين عن طاعة الله ، فانّ في كلّ من القطع والترك حكمة ومصلحة.
﴿وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ
يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)﴾
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٨٠.
(٢) درّب الجنديّ : صبر في الحرب وقت الفرار.
(٣و٤) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٨٠.
(٥) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٨٢.
(٦) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٨٣ ، تفسير روح البيان ٩ : ٤٢٣.