ثمّ وصف سبحانه المذموم بالويل بقوله : ﴿الَّذِي جَمَعَ مالاً﴾ كثيرا لنفسه ، أو حقيرا غير قابل لأن يفتخر به ﴿وَعَدَّدَهُ﴾ وذخره لحوادث الدهر ، أو أحصاه مرّة بعد اخرى لالتذاذ نفسه بعدّه ، أو كثرته وافتخر به. وقيل : يعني جمع مالا وعدّد قومه الذين ينصرونه (١) ، وإنّما ذكر صفة جمعه المال لكونه سبب همزه ولمزه ، وهو من جهله وجمعه ﴿يَحْسَبُ﴾ ويظنّ ﴿أَنَّ مالَهُ﴾ الذي جمعه ﴿أَخْلَدَهُ﴾ في الدنيا ، وآمنه من الموت.
وقيل : إنّ المعنى : اعتقد أنّه إن انتقص ماله يموت ، فيحفظه من التلف والنّقصان ليبقى حيّا (٢) . وقيل : فيه تعريض بالعمل الصالح ، فانّه هو الذي يخلّد صاحبه في الدنيا بالذكر الجميل ، وفي الآخرة في النعيم المقيم (٣) .
﴿كَلَّا﴾ ليس الآخرة كما يظنّ ، ولا ينبغي له هذا الحسبان ، أو المعنى : حقّا والله ﴿لَيُنْبَذَنَ﴾ ذلك الذي جمع المال ، وليطرحنّ ذلك الظانّ للخلود ﴿فِي الْحُطَمَةِ﴾ كالحصا الذي يطرح في البئر.
﴿وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ * نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّها
عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٥) و (٩)﴾
ثمّ بالغ سبحانه في تهويل الحطمة بقوله : ﴿وَما أَدْراكَ﴾ يا محمد ، وأيّ شيء أعلمك ﴿مَا الْحُطَمَةُ﴾ وأيّ شيء هي ؟ هي ﴿نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ﴾ والمشتعلة بأمره وقدرته وغضبه ، لا يطفئها شيء.
ولا يشبهها شيء من نيران الدنيا.
في الحديث : « أوقد عليها ألف سنة حتى احمرّت ، ثمّ ألف سنة حتّى ابيضّت ، ثمّ ألف سنة حتى اسودّت ، فهي سوداء مظلمة » (٤) .
وعن أمير المؤمنين عليهالسلام : « عجبا ممّن يعصي الله على وجه الأرض والنار تسعر من تحته ! » (٥).
﴿الَّتِي تَطَّلِعُ﴾ وتعلو ﴿عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾ وأوساط القلوب وتغشاها.
حاصل الآية والله أعلم أنّ نار جهنّم تحطم وتكسر العظام ، وتأكل اللحوم ، وتدخل في أجواف العصاة وأهل الشهوات ، وتقبل إلى صدورهم ، وتستولى على أفئدتهم ، وتخصيص الأفئدة بالذكر لما أن الفؤاد ألطف ما في الجسد ، وأشدّ تألّما بأدنى الأذى ، أو لأنّه محلّ العقائد الفاسدة والضمائر الخبيثة ومنشأ الأعمال السيئة.
__________________
(١ - ٣ ) تفسير الرازي ٣٢ : ٩٣.
(٤) تفسير الرازي ٣٢ : ٩٤ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٩.
(٥) تفسير الرازي ٣ : ٩٤ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٥٠٩.