ولأنّ الصدقة ـ في واقعها ـ ليست تفضّلا من المانح على الآخذ ، إنّما هي قرض لله. عقّب على هذا بقوله : (وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) غنيّ عن الصدقة المؤذية ، حليم عن فرطاتكم في جنب الله ، فلم تراعوا حريمه حقّ رعايته ، ولكنّ الله غفور رحيم.
قوله : (وَمَغْفِرَةٌ) يراد بها التجاوز عن الإساءة ، فيما إذا تجاسر السائل أو ألحّ في سؤاله أو جفى بحقّ المسؤول ، كأن يقول : أعطني حقّ الله الّذي منحك ، أو امنحني حقّي الّذي فرضه الله في أموالك ، ونحو ذلك من التعابير الّتي قد يثير غضب المتصدّق فيقابله بالجفاء والردّ ، وقد قال تعالى : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)(١) مهما جفاك في السؤال والإلحاح.
فإن لم يكن لديه ما يقضي به حاجة السائل المحتاج وكان قد ألحّ عليه ، فليكن ردّه برفق ، ويرفقه بالاستغفار له قائلا : ليس عندي ما أسدّ به فقرتك ، فاذهب يرحمك الله ويغفر لك.
[٢ / ٧٦٥٨] وأخرج ابن المنذر عن الضحّاك في قوله : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ) الآية. قال : ردّ جميل ؛ يقول : يرحمك الله يرزقك الله ، ولا ينتهره ولا يغلظ له القول (٢).
[٢ / ٧٦٥٩] وعن بشر بن الحرث قال : رأيت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهالسلام في المنام فقلت : يا أمير المؤمنين ، تقول شيئا لعلّ الله ينفعني به! فقال : «ما أحسن عطف الأغنياء على الفقراء رغبة في ثواب الله ، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بموعود الله ـ عزوجل ـ». فقلت : يا أمير المؤمنين زدني ، فولّى وهو يقول :
قد كنت ميتا فصرت حيّا |
|
وعن قليل تصير ميتا |
فاضرب بدار الفناء بيتا |
|
وابن بدار البقاء بيتا (٣) |
***
هذا ، وبعد استعراض مشهد الحياة النامية الواهبة مثلا للّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، دون أن يتبعوا ما أنفقوا منّا ولا أذى ، وبعد التلويح بأنّ الله غنيّ عن ذلك النوع المؤذي من الصدقة وأنّه تعالى هو الواهب الرازق ، ولا يعجل بالغضب.
__________________
(١) الضحى ٩٣ : ١٠.
(٢) الدرّ ٢ : ٤٣.
(٣) الثعلبي ٢ : ٢٦١ ؛ تاريخ بغداد ٩ : ٤٣٢ ؛ القرطبي ٣ : ٣١٠.