قال : وما صرف جمهور المتقدّمين عن هذا المعنى ، على وضوحه إلّا الرواية بأنّه جاء بأربعة طيور من جنس كذا وكذا ، وقطّعها وفرّقها على جبال الدنيا ، ثمّ دعاها ، فطار كلّ جزء إلى مناسبه حتّى كانت طيورا تسرع إليه. فأرادوا تطبيق الآية على هذا ولو بالتكلّف!
وأمّا المتأخرون فهمّهم أن يكون في الكلام خصائص للأنبياء من الخوارق الكونيّة ، وإن كان المقام مقام العلم والبيان والإخراج من الظلمات إلى النور ، وهذا هو أكبر الآيات.
نعم ، إنّ لكلّ أهل زمن غرام في شيء من الأشياء ، يتحكّم في عقولهم وأفهامهم! والواجب على من يريد فهم كتاب الله تعالى أن يتجرّد من التأثّر بكلّ ما هو خارج عنه ، فإنّه الحاكم على كلّ شيء ، ولا يحكم عليه شيء.
قال : ولله درّ أبي مسلم ، ما أدقّ فهمه وأشدّ استقلاله فيه! (١).
وقفة عند قوله تعالى : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ)
اختلف أهل التفسير في معنى (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) ، فالمشهور عن القدامى أنّه بمعنى «فقطّعهنّ» ، ويكون في الكلام تقديم وتأخير ، أي خذ إليك أربعة من الطير فصرهنّ لتكون «إلى» متعلّقة بخذ!
غير أنّ هذا المعنى للفظة «صار يصور» غريب عن متفاهم أهل اللغة ولم يذكر أحد أنّ اللفظة جاءت بهذا المعنى وإنّما هو شيء أحدثه أهل التفسير ، من غير ما شاهد عليه من لغة العرب.
ومن ثمّ لجأوا إلى نسبة الكلمة إلى لغات أخرى وأنّها أعجميّة ؛ فتارة : أنّها نبطيّة (٢). وأخرى : أنّها روميّة (٣). وثالثة : أنّها حبشيّة (٤) وأمثال ذلك ؛ حسبما يأتي.
وسوف نناقش هذا الرأي بأنّ التصريف الثلاثي في الكلمة (٥) دليل على أصالتها في العربيّة ،
__________________
(١) تفسير المنار ٣ : ٥٥ ـ ٥٨.
(٢) الطبري ٣ : ٧٨ ، عن عكرمة. والنبط قبائل عربيّة بائدة كانت تسكن جنوب فلسطين إلى جوار البيزنطيين ، فامتزجت لغتهم بلغة الأجانب. قضى عليهم الإمبراطور ترايانس ١٠٦ ق. م.
(٣) الدرّ ٢ : ٣٥ ، عن وهب.
(٤) المصدر ، عن قتادة.
(٥) بأن تتصرّف في حالة كونها ثلاثيّة البناء : صار يصور صورا ، الأمر الّذي يخصّ العربيّات المحض.