قال تعالى :
(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧))
وبعد أن تمّ الكلام عن التصوّر الإيماني ، في أدقّ جوانبها ، وبيان صفة الله وعلاقة الخلق به ، بذلك البيان الواضح المنير ، ينتقل الكلام إلى إيضاح طريق المؤمنين ، وهم يحملون هذا التصوّر ، ويقومون بهذه الدعوة ، وينهضون بواجب القيادة البشريّة التائهة في غياهب الضلال.
(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).
إنّ قضيّة العقيدة والإيمان ، كما جاء بها هذا الدين الحنيف ، قضيّة اقتناع بعد البيان والإدراك ، وليست قضيّة إكراه وقهر وإجبار. إذ (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ)
فقد جاء هذا الدين ليخاطب الإدراك البشري بكلّ قواه وطاقاته ، يخاطب العقل المفكّر ، والبداهة الناطقة ، ويخاطب الوجدان المنفعل ، كما يخاطب الفطرة المستكنّة. يخاطب الكيان البشري بكلّ جوانبه ، في غير قهر ولا إجبار ، بل في وضح من البرهان ، اللّائح الساطع البيان.
بل لا يواجهه حتّى بالخوارق المادّيّة الّتي قد تلجىء مشاهدها إلجاء إلى الإذعان (١) ، ولكن وعيه لا يتدبّرها وإدراكه لا يتعقّلها ، لأنّها فوق الوعي والإدراك.
وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحسّ البشري بالخارقة المادّيّة القاهرة ، فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوّة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع.
__________________
(١) إشارة إلى حادث نتوق الجبل ـ حسبما فسّره بعضهم ـ لغرض إلجاء بني إسرائيل إلى الإذعان بشرائع الدين! لكنّا قد فنّدنا هذا الرأي : (التمهيد ٧ : ٩٠ ـ ٩٤).