وفي هذا المبدأ بالذات يتجلّى تكريم الله للإنسان ، واحترام إرادته وفكره ومشاعره ، وترك أمره لنفسه فيما يختصّ بالهدى والضلال في الاعتقاد ، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه. وهذه هي أخصّ خصائص التحرّر الإنساني. التحرّر الّذي تنكّره على الإنسان ـ في القرن العشرين ـ مذاهب معتسفة ونظم مذلّلة ، لا تسمح لهذا الكائن الّذي كرّمه الله ـ باختياره لعقيدته ـ أن ينطوي ضميره على تصوّر للحياة غير ما تمليه عليه السلطة الحاكمة (١).
إنّ حرّية الاعتقاد هي أوّل حقوق الإنسان الّتي يثبت له بها وصف «إنسان». فالّذي يسلب إنسانا حرّيّته في الاعتقاد ، إنّما يسلبه إنسانيّته الّتي فطره الله عليها. لكن ليس معنى حرّيّته في اعتناق عقيدة ، حرّيّته في الدعوة ـ إذا كانت دلائل الضلال عليها لائحة ـ أو حرّيّته في التلاعب بعقائد الآخرين ، أو إيجاد التشويش والبلبلة والإخلال بالنظام ، الأمر الّذي كان يعمله المرجفون ولا يزال ، في الأوساط المؤمنة الآمنة المطمئنّة.
الدين في ذاته يتأبّى الإكراه عليه
لا شكّ أنّ الدين ، بما أنّه إيمان وعقيدة ، فإنّه يستدعي أن يكون الباعث له قدرة بيان ووضوح برهان. وفي جوّ هادىء فاره وديع ، لا إكراه فيه ولا إرعاب. إنّه اقتناع نفسيّ وعقد قلبيّ ، لا بدّ له من قوّة دليل الإقناع ، وفي ظلّ من التفاهم الحرّ النزيه ، لا يعكر صفوه تشويش خاطر ولا بلبلة فكر.
ومن ثمّ فليس من طبيعة الدين ، إمكان الإكراه عليه.
هذا شيء ينفيه القرآن وأن لا إكراه في الدين ، إذ قد تبيّن للناس في فطرهم طريق الرشد وطريق الغيّ : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)(٢) قد علم كلّ مشربه ، الأمر الّذي لاح به الدين في وضح النهار وليس في ستار من الظلام.
وهذه خصيصة الدين وميزة شريعة السماء ، تتوافق مع الفطرة وتتلائم مع منهج العقل الرشيد : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) ، و (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)(٣). وإن كان أصحاب الشغب الزائفون يحاولون إنكاره ، فحسبوا من الدين أفيون الشعوب!!
__________________
(١) إشارة إلى الماركسيسيّة وضغطها على الشعوب حيث حلّت وارتحلت. (في ظلال القرآن ١ : ٤٢٥).
(٢) الشمس ٩١ : ٧ ـ ٨.
(٣) الروم ٣٠ : ٣٠.