تلك جلّ نسائج القوم ، نسجتها قرائح غائرة ، خلطت الغثّ بالسمين ، وخبطت خبط عشواء ، ففيها التناقض والتهافت ، والنكارة الفاضحة ، في أكثر فقراتها. الأمر الّذي يأبى صدورها من ذي لبّ حكيم ، فضلا عن أمثال ذلكم الأعلام النبلاء ، وحاشاهم أن يتفوّهوا بمثل تلكم الخبطات!!
التجربة الثالثة
وهكذا يمضي السياق إلى عرض التجربة الثالثة : تجربة إبراهيم ، الّتي قام بها أبو الأنبياء وأقربهم إلى أصحاب هذا القرآن : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
إنّه التشوّف إلى ملابسة سرّ الصنعة الإلهيّة ، إنّه تشوّف لا يتعلّق بوجود الإيمان وثباته وكماله واستقراره ، وليس طلبا للبرهان أو تقوية لليقين والإيمان ، إنّما هو أمر آخر ، له مذاق آخر ، إنّه تشوّق روحي إلى ملابسة السرّ الإلهي ، في أثناء وقوعه العملي ومذاق هذه التجربة في الكيان البشري مذاق يمسّ صميم ذاته ، فليس العلم الحاصل بالبرهان كاليقين الحاصل بمشاهدة عيان ، الأمر الّذي يبتهج إليه النفس ويتروّح له الصدر ويطمئنّ إليه القلب.
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) سؤال عن الكيفيّة بعد الإذعان القاطع بضرورة إحيائه تعالى للأموات للبعث والنشور.
(قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ). لقد كان إبراهيم ينشد اطمئنان الأنس إلى رؤية يد الله تعمل ، واطمئنان التذوّق للسرّ المحجّب وهو يجلّي ويتكشّف ، ولقد كان الله يعلم إيمان عبده وخليله. ولكنّه سؤال الكشف والبيان ، والتعريف بهذا الشوق وإعلانه ، والتلطّف من السيّد الكريم الودود الرحيم ، مع عبده الأوّاه الحليم المنيب!
فمعنى قوله : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) : أو لم يكف في يقينك صريح الوحي وجلاء البرهان؟!
(قالَ بَلى) أي فيه الكفاية والكمال لحصول اليقين وصدق الإيمان ، (وَلكِنْ) تاقت نفسي للخبر والوقوف على كيفيّة هذا السرّ (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) بالعيان بعد خبر الوحي ووضوح البرهان.