المرابين من خروج حركاتهم عن النظام المألوف ، هو أثر اضطراب في نفوسهم وتغيّر أخلاقهم ، كان لا بدّ أن يبعثوا عليه ، فإنّ المرء يبعث على ما مات عليه ، لأنّه يموت على ما عاش عليه. وهناك تبدو صفات النفس الخسيسة في أقبح مظاهرها ، كما تتجلّى صفات النفس الزكيّة في أبهى مجاليها (١). الأمر الّذي عبّروا عنه بتجسّم الأعمال والصفات.
هل للجنّ أن يمسّ الإنسان في ذات نفسه؟
تلك كانت مزعومة العرب : أنّ المصروع الّذي يعبّر عنه بالممسوس ، إنّما يتخبّطه الشيطان ، أي إنّه يصرع بمسّ الشيطان له. وقد كان معروفا عند العرب وجاريا في كلامهم مجرى المثل. كما تقدّم في قول الأعشى ، يصف ناقته في نشاطها الهائج (٢).
قال البيضاوي في التشبيه الوارد في الآية : «وهو وارد على ما يزعمون أنّ الشيطان يخبط الإنسان فيصرع ، والخبط : ضرب على غير اتّساق ، كخبط العشواء. قال : وقوله : (مِنَ الْمَسِ) أي الجنون. وهذا أيضا من زعماتهم أنّ الجنّيّ يمسّه فيختلط عقله ، ولذلك قيل : جنّ الرجل» (٣).
وبعد فهل كان كلامه تعالى ـ هنا ـ مجاراة مع العرب وتوافقا معهم فيما زعموه؟
لكنّا نبّهنا ـ مسبقا عند الكلام عن الشبهات حول القرآن وردودها (٤) ـ أنّ مثل هذا التعبير مجاراة في الاستعمال محضا ، وأنّ المراد من المساس في الآية هو مسّ وساوسه الخبيثة المغرية ، الّتي هي عبارة عن استحواذه على عقليّة أهل المطامع ، ليتيه بهم الدرب ويجعلهم في السعي وراء مطامعهم يتخبّطون خبط عشواء ، وفي غياهب من تيه الضلال. وهذا يعني : استيلاء الشيطان على مشاعرهم ، فعموا وصمّوا (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ). (٥)(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٦).
يقول تعالى ـ بشأن من حاول اقتراف خطيئة عفوا وليس من دأبه ، بل من وساوس شيطانيّة خبيثة طارئة ، فيتذكّر ويؤوب إلى رشده ـ : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ
__________________
(١) المنار ٣ : ٩٤ ـ ٩٥.
(٢) تقدّم عند نقل كلام ابن عطيّة.
(٣) البيضاوي ١ : ٢٦٧.
(٤) التمهيد ٧ : ٢١١ ـ ٢١٢.
(٥) الأنعام ٦ : ٧١.
(٦) المجادلة ٥٨ : ١٩.