قوله تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ)
وبعد أن عزم طالوت على مجاهدة العدوّ ، وأخذ بجنوده في المسير إليهم ، أراد أن يختبر جنوده ، الصادقين منهم الثابتين على اليقين وعلى العهد معه ومثابرتهم أمام الصدمات والشدائد الّتي كانت تنتظرهم ، فاقترح أن يمنعهم من شرب الماء من نهر الأردن وهم على ضافّته ، شربا نهما ، إلّا من اغترف غرفة بيده ، لكنّ الأكثر أبوا إلّا الشرب الوافي ، وبذلك بدأ ضعف قدرتهم الإيمانيّة.
قالوا : إنّ طالوت لمّا علم أنّه سائر بهم إلى عدوّ كثير العدد وقويّ العهد ، أراد أن يختبر قوّة يقينهم في نصرة الدين ، ومخاطرتهم بأنفسهم وتحمّلهم المتاعب ، وعزيمة معاكستهم نفوسهم ، فقال لهم : إنّكم ستمرّون على نهر ـ وهو نهر الأردن ـ فلا تشربوا منه ، فمن شرب فليس منّي. ورخّص لهم في غرفة يغترفها الواحد بيده يبلّ بها ريقه. وهذا غاية ما يختبر به طاعة الجيش ، فإنّ السير في الحرب يعطش الجيش ، فإذا وردوا الماء توافرت دواعيهم إلى الشرب منه عطشا وشهوة.
ويحتمل أنّه أراد إبقاء نشاطهم ؛ لأنّ المحارب إذا شرب ماء كثيرا بعد التعب ، انحلّت عراه ومال إلى الراحة ، وأثقله الماء. والعرب تعرف ذلك ، قال طفيل يذكر خيلهم :
فلمّا شارفت أعلام طيّ |
|
وطيّ في المغار وفي الشعاب |
سقيناهنّ من سهل الأداوي |
|
فمصطبح على عجل وآبي |
يريد : أنّ الجلد الّذي مارس الحرب مرارا لا يشرب ؛ لأنّه لا يسأم من الركض والجهد ، فإذا كان حاجزا كان أخفّ له وأسرع.
والغرّ (١) منهم يشرب ، لجهله لما يراد منه ، ولأجل هذا رخّص لهم في اغتراف غرفة واحدة.
قوله : (فَلَيْسَ مِنِّي) أي ليس ممّن تبعني عن صدق وإيمان.
قوله : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ ...) أي لم يذقه ، هو من الطّعم ـ بفتح الطاء ـ وهو الذوق حيث أريد اختبار المطعوم ، ملوحته أو حلاوته ، ثمّ توسّع فيه فأطلق على اختبار المشروب ، كما قال الحارث بن خالد المخزومي (٢) :
__________________
(١) الغرّ : الشابّ لا خبرة له.
(٢) هو شاعر جاهليّ قتل يوم بدر.