قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ...)
وهذا أيضا أسّ من أسس العقيدة الدينيّة : علمه تعالى الشامل لما حضر وما غاب. و (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ)(١).
وشمول علمه تعالى هذا ، لازم عموم تدبيره لهذا الكون كلّه. وهذه الحقيقة تساهم في تعريف المسلم بإلهه ، وهو تعبير عن العلم الشامل الكامل المستقصي لكلّ جوانب الحياة في هذا الكون الفسيح. إذن فإذ لم يفلت عن شمول علمه تعالى شيء ، كذلك لم يشذّ عن عموم تدبيره تعالى ، لا شيء من الأشياء ، ولا أمر من الأمور ، على الإطلاق.
قوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ)
نعم ليس لأحد علم بأسرار الوجود ، كعلمه تعالى المحيط بكلّ أبعاد الوجود. (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)(٢). ذلك ، متناسبا مع طبيعة الإنسان المحدودة. فلا يمكن إحاطته بعلم الله اللّامحدود.
إذن فما خفي على الإنسان من أسرار هذا الكون ، لا يوازي ما علم به ، وإن جدّ جدّه وكدّ حثيثا ـ عبر الزمان ـ في الكشف عن أسرار الطبيعة المودعة في طيّها.
إنّ الله ـ سبحانه ـ وهب الإنسان المعرفة ، مذ أراد إسناد الخلافة في الأرض إليه ، ووعده أن يريه آياته في الآفاق وفي الأنفس ، ووعده الحقّ وصدقه وعده ، فكشف له يوما بعد يوم وجيلا بعد جيل ، وفي خطّ يكاد يكون صاعدا أبدا ، عن بعض القوى والطاقات والقوانين الكونيّة الّتي تلزم له في خلافته في الأرض ، وليصل بها إلى أقصى الكمال المقدّر له في هذه الرحلة من حياته الأرضيّة.
ولكن هل بلغ ـ أو هل يتوقّع أن يبلغ ـ الغاية ، وهي بلا نهاية؟!
إذن فلا يغترّ الإنسان ولا يفتتن بذلك الطرف من العلم ، الّذي أحاط به بمشيئته تعالى ، وما هي إلّا غرفة من بحر خضمّ. فلا يختلجنّ نفسه ـ يوما وعن سفه ـ فيحسب نفسه جبّارا في الأرض تجاه جبّار السماء.
***
نعم ، للعلماء الحقيقيّين النابهين ، هنا تجاه عظمة هذا الكون وعظمة بارئه ـ موقع مشرّف
__________________
(١) سبأ ٣٤ : ٣ ، ويونس ١٠ : ٦١.
(٢) الإسراء ١٧ : ٨٥.