نعم ، وعند ما يصل التأثّر الوجداني غايته بهذا وذاك ، يتوجّه بالخطاب إلى الّذين آمنوا أن لا يبطلوا صدقاتهم بالمنّ والأذى ، ويرسم لهم مشهدا عجيبا في منظرين عجيبين يتّسقان مع المشهد الأوّل ـ مشهد الزرع والنماء ـ ويصوّران كلّا من طبيعة الإنفاق الخالص لله ، وطبيعة الإنفاق المشوب بالمنّ والأذى ، على طريقة التصوير الفنّي في القرآن ؛ الّتي تعرض المعنى صورة ، والأثر حركة والحالة مشهدا شاخصا للخيال (١) يقول تعالى :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا).
فمثل إنفاق المرائي في حظّه ممّا أنفق ، كمثل حجر صلب أملس ، عليه غشاء من غبار ، لا ثقل له ولا وزن ، فأصابه مطر هاطل من السماء بشدّة ، فأزال ما عليها من أثر الغبار إزالة بالغة.
والوابل : المطر الغزير الهاطل بشدّة ، وهطول المطر : نزوله متتابعا عظيم القطر. وإنّما سمّي وابلا ، لأنّه في الأكثر يعود وبالا للزرّاع. قال الراغب : الوابل ، المطر الثقيل القطار. قال : ولمراعاة الثقل قيل للأمر الّذي يخاف ضرره : وبال.
والصفوان : الحجارة الملساء الصافية من النشوزات ، فلا يثبت عليها عالق ، إذا كانت بمعرض هبوب الرياح العاصفة أو الأمطار الغزيرة الهاطلة.
والحجر الصّلد : هو الّذي لا ينبت. ومنه قيل : رأس صلد ، لا ينبت شعرا. وناقة صلود ومصلاد : قليلة اللّبن. وفرس صلود : لا يعرق. وصلد الزند : لم يخرج ناره. قاله الراغب.
[٢ / ٧٦٦٠] أخرج الطستي في مسائله عن ابن عبّاس ، أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله : (صَفْوانٍ) قال : الحجر الأملس! قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت قول أوس بن حجر :
على ظهر صفوان كأنّ متونه |
|
عللن بدهن يزلق المتنزّلا |
قال : فأخبرني عن قوله : (صَلْداً). قال : أملس. قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت قول أبي طالب :
__________________
(١) في ظلال القرآن ١ : ٤٥١.