بالآخرين ، فلا يكون من جرّائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد ، ودوران المال في الأيدي على أوسع نطاق ، الأمر الّذي يعني : توزيع الثروة العادل ، فلا تتضخّم الثروات في أيدي الأغنياء ، ويظلّ الفقراء محرومين : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ)(١) ، أي تتداول الأموال على أيدي الأثرياء فحسب ، فتتزايد وتتضخّم ثرواتهم في أحجام هائلة. وهم القلّة من أفراد المجتمع ، ويبقى الفقراء ، وهم الأكثريّة البالغة ، مدقعين ؛ قد أدقع بهم الفقر وأذاقهم الأمرّين من متع الحياة!!
هذا ما كانت عليه الجاهليّة الأولى ، تتشكّل مجتمعاتهم من طبقتين : طبقة راقية موسّع عليهم وفي رفاه بالغ ، وهم القلّة القليلة ، تائهون في نشواتهم ونزقاتهم ، ولا يهمّهم شيء سوى استثمار المعوزين ، مستغلّين فرصة افتقارهم وحاجتهم بالذات ، لا رحمة ولا انصاف.
وهؤلاء الفقراء المعوزون هم الكثرة الكثيرة الّذين يشكّلون الطبقة الأخرى ، الكبيرة حجما ، الحقيرة وضعا وحالا.
جاء الإسلام ليكافح هذه الطّبقيّة الغاشمة الجائرة إلى حدّ بعيد. كما وكتب عليهم الطهارة في النيّة والعمل ، والنظافة في الوسيلة والغاية ، وفرض عليهم قيودا في تنمية المال لا تجعلهم يسلكون إليها سبلا تؤذي ضمير الفرد وخلقه ، أو تؤذي حياة الجماعة وكيانها ... (٢).
والإسلام ، أقام هذا النظام العادل على أساس التصوّر الممثّل لحقيقة الواقع في الوجود ، وعلى أساس عهد الاستخلاف الّذي يحكم كلّ تصرّفات الإنسان المستخلف ، في هذا الملك العريض.
ومن ثمّ فإنّ الربا ـ في حقيقته ـ عمليّة تصطدم مع قواعد التصوّر الإيماني إطلاقا ، لأنّه يصطدم مع النظام في صميم كيانه المبتني على أساس «توزيع الثروة العادل» دون تضخّمها في جانب ، وضئالتها بل ضحالتها في جانب آخر.
وكذلك يصطدم مع أصل السواسيّة في الانتفاع بمباهج الطبيعة ومعطياتها لكلّ عايش في ظلّ رحمتها ، كلّ حسب استعداده وطاقاته ، والمساعي الّتي يبذلها في سبيل التمتّع بلذائذ الحياة.
وكذلك يصطدم مع قانون التعاضد والتعاون والتكافل الاجتماعي ، الحاكم على جميع أنظمة
__________________
(١) الحشر ٥٩ : ٧.
(٢) يراجع : فصل «سياسة الإسلام» في كتاب «العدالة الاجتماعيّة في الإسلام» لمحمّد قطب. (في ظلال القرآن ١ : ٤٦٦ ـ ٤٧٥).