قيل له : وجه ذلك أنّه تعالى لمّا وصفهم بالتعفّف وأنّهم ليسوا أهل مسألة بحال بقوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ). وأنّهم إنّما يعرفون بالسيماء ، زاد عباده إبانة لأمرهم وحسن الثناء عليهم ، بنفي الشّره والضراعة الّتي تكون في الملحّين ، عنهم (١).
وقال الزمخشري : الإلحاف : الإلحاح ، وهو اللزوم وأن لا يفارق إلّا بشيء يعطاه. قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ الله يحبّ الحيي الحليم المتعفّف ، ويبغض البذيّ السائل الملحف» (٢). قال : ومعناه : أنّهم إن سألوا سألوا بتلطّف ولم يلحّوا.
وقيل : هو نفي للسؤال والإلحاف جميعا ، كقوله : على لاحب لا يهتدى بمناره (٣).
يريد : نفي المنار والاهتداء به.
قال الفخر الرازي : هذه الآية من المشكلات. وأخذ في تأويلها :
أوّلا : ما قاله الزمخشري : إنّ المعنى : أنّهم إن سألوا سألوا بتلطّف ولم يلحّوا. قال الرازي : وهو ضعيف! لأنّه ينافي وصفهم بالتعفّف عن السؤال.
وثانيا : ما خطر بباله : أن ليس المقصود أنّهم لا يلحفون في السؤال. إذ قد علم من قوله تعالى : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أنّهم لا يسألون قطّ. فإذا لم يسألوا قطّ ، فإنّهم لا يلحفون في المسألة.
__________________
(١) الطبري ٣ : ١٣٦.
(٢) أخرجه ابن أبي شيبة ٦ : ٩١ / ٦.
(٣) البيت لامرء القيس ، وقبله :
وإنّي زعيم إن رجعت مملّكا |
|
بسير ترى منه الفرانق أزورا |
على لاحب لا يهتدى بمناره |
|
إذا سافه العود النباطيّ جرجرا |
والزعيم : الكفيل. والفرانق : رائد القوم الّذي يدلّهم على الطريق. والأزور : الحائد عن الطريق. واللّاحب : الطريق اللّائح. والمنار : أعلام الطريق يهتدى بها. وسافه : شمّ. والعود : الجمل المسنّ. والنباطيّ : نسبة إلى النّبط. وهم قوم يحلّون البطاح يستنبطون منها الماء. والجرجرة : صوت يردّده الجمل إذا تعب وأخذه العيّ في المسير. يقول : إذا ملّكوني كنت متكفّلا لهم السير في طريق لائح ، لا حاجة فيه إلى الاهتداء بمعالم وأدلّاء. قال الشيخ محمّد عليان : وهذا نوع من البديع يسمّونه نفي الشيء بإيجابه. ويفسّرونه بأن يكون الكلام ظاهره إيجاب الشيء وباطنه نفيه ، بأن ينفي ما هو من سببه ومن لوازمه. وفي البيت نفي الاهتداء بالمنار ، والمقصود : نفي المنار. كما ذكره السيوطي في شرح عقود الجمان. (هامش الكشّاف ١ : ٣١٨ ـ ٣١٩).