قال : وفي الآية ما يدلّ عليه ، وهو قوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) في المسألة! ولو كانوا يسألون لم يكن يحسبهم الجاهل أغنياء ، لأنّ السؤال في الظاهر يدلّ على الفقر ، وكذا قوله : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) ؛ ولو سألوا لعرفوا بالسؤال.
قالوا : وإنّما هو كقولك : ما رأيت مثله ، وأنت لم ترد أنّ له مثلا ما رأيته ، وإنّما تريد أنّه ليس له مثل فيرى. فمعناه : لم يكن سؤال فيكون إلحاح. كقول الأعشى :
لا يغمز الساق من أين ومن نصب |
|
ولا يعضّ على شرسوفه الصّفر |
أي ليس بساقه أين ولا نصب ـ وهو التعب والإعياء ـ فيغمزها من أجلهما. والشّرسوف : رأس الأضلاع ، والصّفر : داء للبطن ، أي ليس له صفر ليعضّ على أضلاعه وجعا.
ومثله قول النابغة :
يحفّه جانبا نيق ويتبعه |
|
مثل الزّجاجة لم تكحل من الرمد (١) |
أي ليس بها رمد فيكتحل له (٢).
وقال أبو جعفر الطبري : فإن قال قائل : أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غير إلحاف؟ قيل : غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئا على وجه الصدقة إلحافا وغير إلحاف! وذلك أنّ الله وصفهم بأنّهم كانوا أهل تعفّف ، وأنّهم إنّما كانوا يعرفون بسيماهم ، فلو كانت المسألة من شأنهم لم تكن صفتهم التعفّف ، ولعرفوا بذلك قبل دلالة السيماء.
قال : فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت ، فما وجه قوله : (يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) وهم لا يسألون إطلاقا؟
__________________
ـ بالمسألة ، وهو مستغن عنها. واللّحاف من هذا اشتقاقه ، لأنّه يشمل الإنسان في التغطية. والمعنى : أنّه ليس منهم سؤال فيكون منهم إلحاف. كما قال امرؤ القيس :
على لاحب لا يهتدى بمناره |
|
إذا سافه العود الديافيّ جرجرا |
المعنى : ليس به منار فيهتدى بها. وكذلك ليس من هؤلاء سؤال فيقع فيه إلحاف. (معاني القرآن للزجّاج ١ : ٣٥٧).
واللاحب : الطريق الواضح اللائح. لا منار فيه ولا علم هناك ليهتدى به ، أي لا حاجة به بعد وضوح الطريق ذاته.
(١) الضمير يعود إلى سرب الحمام. والنيق : أرفع موضع من الجبل. يعني : يطير سرب الحمام بين قمم الجبال ، وتتبعها ـ أي تنظر إليها ـ عين مثل الزجاجة ، يصف فتاة كان تعدّ سرب الحمام حين طيرانها.
(٢) مجمع البيان ٢ : ٢٠٣ ، و ١ : ٤٧٨.