بل المقصود التنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافا! مثاله : ما إذا حضر عندك رجلان ، أحدهما عاقل وقور ثابت ، والآخر طائش مهذار سفيه ، فإذا أردت أن تمدح أحدهما وتعرّض بذمّ الآخر ، قلت : فلان رجل عاقل وقور قليل الكلام ، لا يخوض في التّرّهات ولا يسرح في السّفاهات.
ولم يكن غرضك من قولك : «لا يخوض في التّرّهات والسّفاهات» وصفه بذلك ، لأنّ ما تقدّم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك ، بل غرضك التنبيه على مذمّة الثاني الّذي يأخذ في ترّهات الكلام.
وكذا ها هنا قوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) بعد قوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) ، الغرض منه التعريض بمن يسأل الناس ويلحف في مسألته ، لتبيّن الفرق البائن بين الجنسين ، ليستحقّ أحدهما المدح والآخر الذمّ (١).
[٢ / ٧٨٠٢] أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ليس المسكين بالطوّاف الّذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الّذي يتعفّف ولا يجد ما يغنيه ، ويستحي أن يسأل الناس ، ولا يفطن له فيتصدّق عليه» (٢).
[٢ / ٧٨٠٣] وأخرج ابن جرير عن أبي سعيد الخدري ، قال : أعوزنا مرّة ، فقيل لي : لو أتيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فسألته! فانطلقت إليه معتفيا (٣) ، فكان أوّل ما واجهني به : «من استعفّ أعفّه الله ، ومن استغنى أغناه الله ، ومن سألنا لم ندّخر عنه شيئا نجده». قال : فراجعت نفسي وقلت : ألا أستعفّ فيعفّني الله! فرجعت فما سألت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شيئا بعد ذلك من أمر حاجة حتّى مالت علينا الدنيا ، فغرقتنا إلّا من عصم الله (٤).
__________________
(١) التفسير الكبير ٧ : ٨١.
(٢) الدرّ ٢ : ٩١ ؛ ابن أبي حاتم ٢ : ٥٤١ / ٢٨٧٥ ؛ ابن كثير ١ : ٣٣٢ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٧٨ / ١٩٩ ؛ البغوي ١ : ٣٧٨ / ٣٢١ ؛ مسند أحمد ١ : ٣٨٤ و ٤٤٦ و ٢ : ٥٠٥ ـ ٥٠٦ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ٩٢ ، باب في المسكين ، قال الهيثمي : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ؛ البخاري ٥ : ١٦٤ ، كتاب التفسير ، عن أبي هريرة ؛ مسلم ٣ : ٩٥ ـ ٩٦ كتاب الزكاة ، عن أبي هريرة ؛ أبو داوود ١ : ٣٦٨ / ١٦٣١ باب ٢٤ ، عن أبي هريرة ؛ النسائي ٦ : ٣٠٦ / ١١٠٥٣ ، كتاب التفسير عن أبي هريرة ؛ القرطبي ٣ : ٣٤٢.
(٣) اعتفى فلانا : أتاه يطلب معروفه.
(٤) الطبري ٣ : ١٣٦ ـ ١٣٧ / ٤٨٧٦ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٧٨ ؛ أبو الفتوح ٤ : ٩٢ ؛ أبو يعلى ٢ : ٤٥٥ ـ ٤٥٦ / ٢٩٣ ـ ١٢٦٧.