وبعد فمن الجدير أن يتعرّض القرآن ـ هنا ـ لبيان جملة حقائق كبيرة ، ذات أثر عميق في إقامة التصوّر الإسلامي على قواعده الرصينة ، وفي استقامة السلوك الإسلامي على طريقته النقيّة الزاهية : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).
نعم كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يكابد الأمرّين في مواجهته صناديد قريش وحميّتهم العمياء عن طريقة آبائهم في التيه والضلال : (قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(١).
وفي سورة الزخرف بعد ما يستنكر عليهم جملة من عادات جاهليّة جافية ، ما أنزل الله لها من سلطان ولا أقرّها برهان ، بعد ذلك جاء يؤنّبهم بموضع جهلهم وافتراءاتهم الظالمة :
(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ. بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ. وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)
ودليلا على عنادهم هذا الفاضح ولجاجهم هذا العارم ، يقارعهم بقارعة البرهان القامع : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) أي تلحظون الفارق الكبير بين سفاسف الآباء ، وهذه الحقائق الناصعة. فما كان جوابهم إلّا أن (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) وهذه غاية المعاندة واللجاج. ومن ثمّ تحتّم عليهم العذاب : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(٢).
وهذا عرض موجز لما كان يكابده الأنبياء ، ولا سيّما نبيّ الإسلام ، تجاه أهل الشقاء والشقاق.
ومن ثمّ وافته تلكم التسلّيات العديدة ، لغرض الحطّ من همّه الشديد تجاه لجاج قومه ، وكاد يتفجّر به لو لا أن تداركته عنايات ربّه المتواصلة. (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)(٣).
وأمثالها من آيات جاءت تسلّي خاطر النبيّ ، فلا تذهب نفسه عليهم حسرات. كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
(١) المائدة ٥ : ١٠٤.
(٢) الزخرف ٤٣ : ٢٠ ـ ٢٥.
(٣) الكهف : ١٨ : ٦.