والآن فلنشاهد المنظر الآخر ، المقابل لمنظر قلب المرائي العاثر ، فها هو قلب عامر بالإيمان ، نديّ ببشاشة ، ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله ، وينفقه عن ثقة ثابتة في الخير ، نابعة من الإيمان ، عميقة الجذور في الضمير.
وإذا كان القلب الصلد وعليه ستار من الرياء ، يمثّله صفوان عليه غشاء من التراب ، فالقلب المؤمن تمثّله جنّة ، جنّة خصبة عميقة التربة في مقابل.
قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
هذا هو المنظر الآخر المقابل للمنظر الأوّل ـ كان منظر قلب مراء عاثر ـ وها هو قلب مؤمن عامر بالإيمان ، نديّ ببشاشة ، ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله ، حيث الخير كلّه في رضاه تعالى.
وكذلك ينفق ماله لتثبيت نفسه ، ليكون على ثقة من دينه وترسيخ إيمانه بالله تعالى. فلا يعمل لغير رضاه تعالى ، ويجهد بكلّ عزمه في سبيل بثّ الخير وفي صالح المجتمع العام.
فمثله كمثل جنّة خصبة عميقة التربة ـ في مقابل حفنة التراب على الصفوان ـ جنّة تقوم على ربوة : أرض ذات صلاحيّة للزرع والنماء. في مقابل حجر صلد أجرد.
وهذه الأرض الطيّبة يزيد في خصبها ونماء زرعها ، هطول الأمطار عليها بغزارة ، من غير خوف الفساد ، حيث ثبات جذور الزرع والنبات ، الأمر الّذي جعل المنظر متناسق الأشكال ، فإذا جاء الوابل ، لم يذهب بالتربة الخصبة هنا ، كما ذهب بغشاء التراب هناك ، بل أحياها وأخصبها وأنماها.
ومن ثمّ عند ما أصابها وابل ، آتت أكلها ـ ثمرها ـ ضعفين. أحياها كما تحيي الصدقة قلب المؤمن المعوز ، فيزكو ويزداد صلة بالله. ويزكو ماله كذلك ويضاعف الله ما يشاء. وكما تزكو حياة الجماعة المسلمة بمثل هذا الإنفاق ـ الخالص لوجه الله ـ وتصلح وتنمو.
وحتّى (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ) مطر غزير ثقيل القطار ، (فَطَلٌ) الطلّ : ضعيف المطر ورذاذه. الأمر الّذي يفي بتبليل الأرض الخصبة ويكفي في إنمائها. حيث القابليّة المؤاتية تتجاوب مع أقلّ الإمكانيّات.
وهكذا تزكو الصدقات وتنمو بركاتها ، مهما تواجدت شرائطها متوفّرة أو مقصورة.
وكما قال سيّد قطب : بحقّ إنّه مشهد كامل ، لمنظرين متقابلين متناسقي الجزئيّات ، مشهد